عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴿١٨﴾    [الأنبياء   آية:١٨]
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} لما نفى سبحانه عن نفسه اللهو واللعب أضرب عن اتخاذهما فأخبر أنه يقذف بالحق على الباطل. وأصل القذف: الرمي الشديد بجسم صلب كالحجارة والحصا ونحو ذلك. جاء في (روح المعاني): "وأصل القذف الرمي البعيد كما قال الراغب وهو مستلزم لصلابة الرمي" (1). فكأن الحق جرم صلب شديد والباطل جسم رخو وقد قذف به على الباطل فحطمه. وجاء بـ (إذا) الفجائية للدلالة على سرعة زهوقه واضمحلاله. وقال: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} بالاسم ولم يقل: (فإذا هو يزهق) للدلالة على الثبات وللدلالة على سرعة زهوقه، فكأن الأمر حاصل وثابت، ولم يدع له فرصة لبقائه ومكثه. وقد ذكر ربنا في السورة أمثلة لما قذف به من الحق على الباطل، فقد ذكر في أكثر من موطن أنه أهلك الظالمين والمسرفين ومن استحق العقوبة فقذف الحق على الباطل فدمغه. قال تعالى: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)} فذكر أنه أهلك القرى بسبب عدم إيمانها. وقال: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) }. وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً (11)}. وقال: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)} وذكر قذف الحق على الباطل بالحجة والبرهان فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)}. فناسب ذلك قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}. جاء في (الكشاف): "(بل) إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه منه لذاته... بل من عادتنا وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القبيح أن نغلب اللعب بالجد وندحض الباطل بالحق. واستعار لذلك القذف والدمغ تصويرًا لإبطاله وإهداره ومحقه، صلب كالصخرة مثلا قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه" (2). وجاء في (تفسير أبي السعود): "وقد استعير لإيراد الحق على الباطل القذف الذي هو الرمي الشديد بالجرم الصلب كالصخرة، ولمحقه للباطل الدمغ الذي هو كسر الشيء الرخو الأجوف وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدي إلى زهوق الروح تصويرا له بذلك... وفي (إذا) الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى فكأنه زاهق من الأصل" (3). {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} هو تهديد ووعيد بالهلاك لأهل الكفر بسبب ما يصفونه به سبحانه من أمور لا تجوز ولا تليق بشأنه. و(من) في (مما) تعليلية. و(ما) في (ما تصفون) تحتمل الموصولة، أي بالذي يصفونه به سبحانه، وتحتمل المصدرية، أي بوصفهم له سبحانه بما لا يليق. جاء في (روح المعاني): {مِمَّا تَصِفُونَ}: و(ما) إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة، أي ومستقر لكم الويل والهلاك من أجل وصفكم له تعالى بما لا يليق بشأنه الجليل تعالى شأنه، أو بالذي تصفونه، أو بشيء تصفونه به من الولد ونحوه" (4). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 48 إلى ص 50. (1) روح المعاني 17/20 وانظر مفردات الراغب (قذف). (2) الكشاف 2/323، البحر المحيط 6/280. (3) تفسير أبي السعود 3/692. (4) روح المعاني 17/20 وانظر تفسير أبي السعود 3/692.