عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴿١٦﴾ ﴾ [الأنبياء آية:١٦]
- ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴿١٧﴾ ﴾ [الأنبياء آية:١٧]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)}
لما أثبت للناس اللهو واللعب في أول السورة وذمهم بذلك في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)} نفى عن نفسه ذلك في هاتين الآيتين، بل نفى عنه ذلك منذ أول الخلق إلى الأبد، فإنه لم يفعل شيئًا ولا يفعل شيئًا إلا عن حكمة، وقد أظهرت شيئًا من ذلك آيات السورة من أولها إلى أخرها.
فقد قال ههنا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} وهذا أول الخلق.
وقال في خواتيم السورة: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 97]، وقال: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (104) }.
وكما قال ذلك في مواضع عدة من القرآن الكريم من نحو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85].
وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27].
وقال بعد الآية: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ }[الأنبياء: 18].
جاء في (نظم الدرر): "ولما ذمهم باللعب وبين أنه يفعل في إهلاك الظلم وإنجاء العدل فعل الجاد بإحقاق الحق بالانتقام لأهله وإزهاق الباطل باجتثاثه من أصله... عطف عليه قوله: وَمَا خَلَقْنَا} أي بعظمتنا التي تقتضي الجد ولابد...
ولما نفى عنه اللعب أتبعه دليله فقال: {لَوْ أَرَدْنَا}" (1).
وجاء في (الكشاف): "أي وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق... للهو واللعب، وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعد...
ثم بين أن السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالي هو أن الحكمة صارفه عنه وإلا فأنا قادر على اتخاذه إن كنت فاعلاً (2).
وقال: (خلقنا) بإسناد الخلق إلى ضمير العظمة، ولم يرد (خلقت) في نحو هذا التعبير في القرآن العظيم.
قد تقول: لقد قال ههنا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ }
وقال في سورة الدخان: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)}.
وفي التعبيرين تشابه واختلاف.
من ذلك إفراد السماء في آية الأنبياء وجمعها في الدخان، وذكر اللهو في سياق الأنبياء في قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} ولم يذكر من ذلك سببه المناسب.
1- فقد نفى عن نفسه سبحانه اللعب واللهو في آيتي الأنبياء، فقد قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} فنفى عنه اللهو، وذلك أنه أثبت في أول السورة للناس اللعب واللهو فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}.
وأما في الدخان فقد أثبت لهم اللعب فقال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}.
فنفى عنه سبحانه اللعب.
2- أثبت في الدخان لهم الشك فقال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} ونقيض الشك العلم فنفى عنهم العلم فقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ذلك أن الشاك ليس عنده علم يفضي إلى اليقين فنفى عنهم ذاك.
3- أفرد السماء في سورة الأنبياء فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} وذلك مناسب لما ورد في أول السورة، فقد قال سبحانه: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)}.
وجمعها في سورة الدخان فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} وهو مناسب لما ورد في أول السورة، فقد قال: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان: 7].
فناسبت كل آية مفتتح سورتها.
4- إن الكلام في سورة الأنبياء مبني على العموم، فقد قال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}.
فذكر الناس على العموم.
وقال: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} والسماء أعم من السماوات.
ذكر الأمم على العموم فقال: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}.
فجاء بـ (من) الاستغراقية.
وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} فذكر الرسل قبله.
وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} فجاء بـ (كم) الخبرية الدالة على التكثير.
أما في الدخان فقد ذكر على سبيل الخصوص.
فقد ذكر قوم فرعون فقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ}
ثم ذكر كفار قريش فقال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ}.
وذكر قوم تبع والذين من قبلهم فقال: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ (37)}.
فذكر القرى على العموم في الأنبياء.
وذكر قومًا مخصوصين في الدخان.
فناسب العموم العموم وهو (السماء).
وناسب الخصوص الخصوص وهو (السماوات).
فإن السماء قد تأتي أعم من السماوات كما ذكرنا في أكثر من مناسبة.
5- ذكر الأنبياء في سورة الأنبياء على العموم.
ثم ذكر من أسمائهم ما هو أعم وأكثر مما هو في سورة الدخان. فقد قال في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}.
وقال: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي (24) }.
وهذا يعم جميع الأنبياء بلا استثناء.
وذكر من الأنبياء موسى وهرون فقال: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً (48)}.
وذكر إبراهيم فقال: { وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ (51).}
ولوطًا فقال: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (71).}
{وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا (74).}
وإسحاق ويعقوب (۷۲)، ونوحًا (٧٦)، وداود وسليمان (۷۸)، وأيوب (83)، وإسماعيل وإدريس وذا الكفل (٨٥)، وذا النون (۸۷)، وزكريا (۸۹)، ويحيي (۹۰).
في حين لم يذكر في الدخان اسم رسول وإنما ذكر قوم فرعون بشيء من التفصيل، وأشار إلى قوم تبع والذين من قبلهم.
فلما كان الكلام في الأنبياء على العموم ذكر السماء التي تفيد العموم. فناسب العموم العموم من كل وجه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 43 إلى ص 48.
(1) نظم الدرر 12/397 – 398.
(2) الكشاف 2/322.