عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴿١١﴾    [الأنبياء   آية:١١]
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11)} القصم: أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء ويفرقها بالكلية. والتعبير بالقصم يدل على غضب شديد. و(كم) خبرية وهي تدل على التكثير. ونسب الظلم إلى القرية والمقصود أهلها لإرادة الشمول والعموم. جاء في (الكشاف): {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} وإرادة عن غضب شديد ومنادية على سخط عظيم لأن القصم أفظع الكسر، وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم. وأراد بالقرية أهلها، ولذلك وصفها بالظلم. وقال: {قَوْمًا آَخَرِينَ} لأن المعنى: أهلكنا قومًا وأنشأنا قومًا آخرين" (1). وجاء في (روح المعاني): " وفي لفظ القصم الذي هو عبارة عن الكسر بتفريق الأجزاء وإذهاب التئامها بالكلية، كما يشعر به الإتيان بالقاف الشديدة من الدلالة على قوة الغضب وشدة السخط ما لا يخفى" (2). قد تقول: لقد قال في موضع آخر من القرآن الكريم: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} [الأنعام: 6]. فذكر القرية في الأنبياء، وذكر القرن في الأنعام. وذكر القصم في الأنبياء، وذكر الإهلاك في الأنعام. وقال في الأنبياء: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا} وقال في الأنعام: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} فما دلالة ذلك في كل من الموطنين؟ فنقول: 1- القرن أهل زمن واحد، والجبل الواحد، وقيل: هو مائة سنة، وقيل: ثمانون، وقيل غير ذلك (3). أما القرية فمعروفة. والقرن إنما تكون فيه قرى كثيرة، فالقرن الواحد يشمل كثيرًا من القرى، فقد تكون عشرات القرى في زمن واحد. فالقرى أكثر عددًا من القرن. ثم إنه وصف القرن بأوصاف تخصصهم قد لا تكون في القرية، فقد قال فيه: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ}. وقد تكون القرية غير ممكنة في الأرض كما وصف. وذكر أنه أرسل السماء عليهم مدرارًا وجعل الأنهار تجري من تحتهم، وليست كل القرى كذلك. 2- قال في آية الأنبياء: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} وقال في آية الأنعام: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ } فقال بعد إهلاك القرى إنه أنشأ قومًا آخرين، ذلك أن القرى تسكنها أقوام مناسب أن يقول بعد إهلاك القرى أنه أنشأ قومًا آخرين. وأما القرن فيليه قرن آخر فناسب ذكر القرن بعد إهلاك القرن قبله. 3- قال في آية الأنبياء: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا} وقال آية الأنعام: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ}. ذلك أنه بعد إهلاك القرى قد يتأخر الزمن لمجيء قوم بعدهم، فقد تبقى القرى خالية خاوية من دون أن يأتي بعد هلاكها قوم. أما القرن قيليه القرن الآخر بلا فاصل، فجاء بـ (من) التي تفيد الابتداء. 4- قوله: (قصمنا) في آية الأنبياء مناسب لقوله: {كَانَتْ ظَالِمَةً} ذلك أن الظلم يستدعي شدة العقوبة. وقوله: {أَهْلَكْنَا} مناسب لقوله: {بِذُنُوبِهِمْ} فإن الذنوب قد تكون كبيرة وقد تكون ذلك. فناسب ذكر القصم وهو أفظع الكسر والمنبئ عن السخط الشديد ذكر الظلم. وناسب ذكر الإهلاك الذي قد لا يبلغ مبلغ القصم قوله: {بِذُنُوبِهِمْ}. ثم إن القصم إهلاك خاص فناسب ذكر الظلم، وهو أخص من عموم الذنب. وإن الإهلاك عام فناسب ذكر الذنوب وهي عامة. فناسب كل تعبير موضعه. وقد تقول: لكنه سبحانه قد يذكر الظلم ولا يذكر القصم وإنما يذكر الإهلاك كما قال تعالى في سورة الحج: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}. فنقول: القصم كما ذكرنا ينبئ عن شدة العقوبة وشدة السخط، ولو نظرنا في سياق كل من الآيتين في الحج والأنبياء لا تضح الفرق. فإنه قال في آية الحج: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}. وقال في سياق آية الأنبياء: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)}. فذكر أنهم أترفوا وانهم نادوا بالويل وأقروا بالظلم {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} وأنه سبحانه جعلهم حصيدًا خامدين. فالفرق ظاهر. فناسب كل تعبير موضعه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 36 إلى ص 40. (1) الكشاف 2/322. (2) روح المعاني 17/15. (3) انظر لسان العرب (قرن)، تاج العروس (قرن)، المصباح المنير (قرن).