عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿٧﴾    [الأنبياء   آية:٧]
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} رد على قولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} بهذه الآية، فذكر أن الرسل قبل سيدنا محمد كلهم بشر يوحى إليهم وليسوا ملائكة. وإن كنتم لا تعلمون ذلك فاسألوا أهل الذكر، أي أهل الكتاب حتى يعلموكم. جاء في (الكشاف): "أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا" (۱). وجاء في (البحر المحيط): "ولما تقدم من قولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، وأن الرسول لا يكون إلا من عند الله من جنس البشر قال تعالى رادًا عليهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا}، أي بشرًا، ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا. ثم أحالهم على أهل الذكر فإنهم وإن كانوا مشابهين للكفار ساعين في إخماد نور الله لا يقدرون على إنكار إرسال البشر. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} من حيث إن قريشًا لم يكن لها كتاب سابق ولا أثارة من علم (۲). قد تقول: لقد قال في أكثر من موضع: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} بذكر (من)، وفي آية الأنبياء هذه لم يذكر (من). فقد قال تعالى في سورة يوسف: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)} بذكر (من). وقال في النحل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} بذكر (من) أيضًا. فما الفرق؟ فنقول: إن السياق في كل موضع يوضح السبب: فقد ذكر كثير من النحاة أن (من) في نحو هذا التعبير تدل على ابتداء الغاية، وذهب قسم آخر إلى أنها تفيد التوكيد (3). ومقتضى ابتداء الغاية على ما ذكر بعضهم في نحو هذا التعبير أنه يفيد استغراق الزمن المتقدم ابتداء من ابتداء الغاية إلى ما قبله، وأن (من) تفيد توكيد ما دخلت عليه (4). ثم إن السياق في آيتي يوسف والنحل يختلف عنه في آية الأنبياء، فما كان في يوسف والنحل إنما هو في سياق العقائد. فقد قال في سياق آية يوسف: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} فذكر كثرة الآيات التي يمرون عليها في السماوات والأرض وهم معرضون عنها. وهذه أعم وأكثر بكثير من كون (الرسل بشرًا)، فهذه مسألة واحدة وتلك آيات كثيرة. ثم ذكر معتقداتهم في الإيمان بالله مع شركهم به. ثم قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)}. فقد حذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل القرى الذين يمرون عليهم من العقوبة ويستمر في الكلام في نحو هذا. كل هذا ليس متعلقًا بكون الرسل بشرًا أو ملائكة. فالأمر أكد وأعم وأشمل، فجاء بـ (من) التي قد تفيد التوكيد والعموم. وكذلك السياق في سورة النحل فإنه في العقائد والبينات والزبر وتحذير المعاندين بالعقوبات. فقد قال في سياق آية النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)}. فذكر استغراق بعث الرسل للأمم كلها ودعوتهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت، وليس الكلام على كون الرسل بشرًا أو ملائكة، إلى أن قال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44}. وطلب منهم استعلام أهل الكتاب عن البينات والزبر، وإنه أنزل الذكر إليه ليبين للناس ما نزل إليهم. وليس له علاقة بكون الرسل بشرًا أو ملائكة. فهو أعم وأشمل من ذلك. وحذر الذين يمكرون السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يعذبهم. وهو نظير ما مر في سورة يوسف. فجاء بـ (من) الدالة على العموم والتوكيد والشمول. وأما آية الأنبياء فهي في أمر واحد وهو ما يتعلق بإثبات بشرية الرسل، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)}. فما في يوسف والنحل أعم وأشمل. ونظير آية الأنبياء هذه ما جاء في سورة الفرقان وذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ (20)}. فلم يذكر (من) في الموضعين لتشابههما. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ليست كل الأمم ينكرون بشرية الرسل، فإن أهل الكتاب لا ينكرون ذلك، ولذلك أحالهم على أهل الذكر للاستفسار، بخلاف الإيمان بما جاءت به الرسل، فإن عموم التكذيب إنما هو في ذلك. فما في آيتي يوسف والنحل أعم من هذه الناحية أيضًا. فإن المكذبين بما جاءت به الرسل أكثر من المكذبين بكون الرسل بشرًا. فما جاء بـ (من) أكثر. فناسب ذكر (من) من هذه الناحية أيضًا. ثم إن آية الأنبياء مناسبة لما قبلها وهو قوله: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا (6)}. فكلتا الآيتين من دون (من). فناسب ذلك من هذه الناحية أيضًا. ثم لننظر في الآيات من ناحية أخرى: فقد قال في آية يوسف: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}. فذكر (أهل القرى) ذلك أنه قال في الآية: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وهم يمرون على القرى في سيرهم في الأرض، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [الفرقان: 40] فناسب ذكر القوى. وقال في آية النحل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} ذلك أنه قال بعد ذلك: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} فالتناسب ظاهر. جاء في (درة التنزيل): قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]. وقال في سورة النحل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} وقال في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) } للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} فرق؟ ولأي معنى خص موضع بحذف (من) وموضع بإثباتها؟ الجواب: أن يقال: إن (من) لابتداء الغاية. و(قبلك) اسم للزمان الذي تقدم زمانك. فإذا قال: (وما أرسلنا من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل تحديه. ويستوعب بذكر طرفيه ابتداءه وانتهاءه. وإذا قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك... فأما قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فإنما لم يؤكد بـ (من) لأن المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} (5). وجاء في (ملاك التأويل) في هذه الآيات التي ذكرها صاحب الدرة: "أن آية يوسف قد تقدمها قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)}، وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} وقوة السياق في هذه الآية يدل على القسم ويعطيه، فناسب ذلك زيادة (من) المقتضية الاستغراق. وكذلك قوله في سورة النحل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ} [النحل: 41] يؤكد ذلك المعنى. فناسبه زيادة (من) لاستغراق ما تقدم من الزمان. أما قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} فتقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر في قوله: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ }واقتراحهم الآيات في قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)}، فلما انطوى هذا الكلام على قضيتين من اقتراحهم الآيات وإنكارهم كون الرسل من البشر، وقد تبين لهم حال المقترحين في قوله تعالى: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَ} فلما تقدم هذا أتبع ببيان الطرف الآخر وهو التعريف بأن من تقدم من الرسل إنما كانوا رجالاً من البشر مختصين بتخصيصه سبحانه ولم يكونوا ملائكة، فقيل لنبينا محمد : {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}. فقيل هنا (قبلك) كما قيل في نظيرتها {}فلم تدخل هنا (من) كما لم تدخل في النظير الآخر لإحراز التناسب والتحام الجملة المنطوية على طرفي مقصدهم من الاقتراح وإنكار كون الرسل من البشر. (6). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 27 إلى ص 33. (1) الكشاف 2/322. (2) البحر المحيط 6/298 وأنظر روح المعاني 17/12. (3) انظر لسان العرب (من)، المغني 1/325 – 326، التصريح 1/342. (4) انظر ملاك التأويل 1/678، درة التنزيل 241. (5) درة التنزيل وغرة التأويل 240 – 242. (6) ملاك التأويل 2/540 – 541.