عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ﴿٦﴾    [الأنبياء   آية:٦]
{مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) } لما طلبوا أن يأتيهم بآية كما أرسل الأولون قال سبحانه: إن القرى التي أوتيت الآيات لم يؤمنوا، فأهلكها ربنا، أفهؤلاء يؤمنون؟ أي إنهم لا يؤمنون. وفحوى ذلك أنه إن لم يؤمنوا فسيهلكهم كما أهلك الأولين. فأمسك الآيات ليستبقيهم فيؤمن منهم من يؤمن ويمكن لهم في الأرض ويستخلفهم إلى قيام الساعة. جاء في (الكشاف): "فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا فأهلكهم الله. فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أنكث وأنكث" (1). وجاء في (البحر المحيط): "ولكن حكم الله تعالى بإبقائهم ليؤمن من آمن ويخرج منهم مؤمنين" (2). وجاء في (التحرير والتنوير): "وإنما أمسك الله الآيات والخوارق عن مشركي مكة لأنه أراد استبقاءهم ليكون منهم مؤمنون وتكون ذرياتهم حملة هذا الدين في العالم. ولو أرسلت عليهم الآيات البينة لكانت سنة الله أن يعقبها عذاب الاستئصال للذين لا يؤمنون بها" (3). والمراد بإهلاك القرية إهلاك أهلها. جاء في (روح المعاني): {أَهْلَكْنَاهَا} صفة قرية. والمراد أهلكناها بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات (4). لقد قال سبحانه: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ} ولم يقل: (من قبلهم) ذلك أن (من) تفيد ابتداء الغاية (5) أي من قبلهم القريبين فمن قبلهم. وأما {قَبْلَهُمْ }، فتفيد القبلية غير المقيدة فقد تكون قريبة أو بعيدة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ}. فجاء بـ (من) لأن ذلك يشمل جميع من قبله ابتداء من الأقرب فمن قبلهم، فكلهم ماتوا ولم يخلد أحد منهم. فقال: (قبلهم) ولم يقل: (من قبلهم) لأنه لم يحصل ذلك في الزمن القريب منهم، ذلك أن أقرب رسول منهم هو عيسى بن مريم، وبين الرسالتين أكثر من ستمائة عام، وهو زمن بعيد، ولا نعلم كم من الزمن ممن هو قبل عيسى حصل ذاك فلم يذكر (من). وقال: {مِنْ قَرْيَةٍ} بإدخال (من) الاستغراقية على القرية، فأفاد ذلك استغراق جميع القرى التي لم تؤمن. قد تقول: لقد قال ههنا: {أَهْلَكْنَاهَا} فجعل الإهلاك للقرية. في حين قال في موطن آخر: {أَهْلَكْنَاهُمْ} فجعل الإهلاك لأهلها، قال تعالى في سورة الكهف: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} فما السبب؟ فنقول: لما قال: {لَمَّا ظَلَمُوا} فأسند الظلم إلى أهلها قال: {أَهْلَكْنَاهُمْ}، ألا ترى إلى قوله سبحانه: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 45] لما نسب الظلم إليها فقال: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ } قال: {أَهْلَكْنَاهَا}؟ ومن اللطائف في نحو هذا التعبير قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13] فقال: {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ }ولم يقل: (أهلكناها)، ذلك أنه لما قال: {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } ويعني بالقرية التي أخرجته مكة قال: {أَهْلَكْنَاهُمْ} ولم يقل: (أهلكناها) تعظيمًا لها لئلا يظن أنه سينالها الإهلاك كما فعل بالقرى العاتية. فجعل الإهلاك لأهلها، وليس ببعيد على الله أن يهلك العتاة من أهل هذه القرية كما فعل بغيرهم ويأتي بمن هو خير منهم. ألا ترى أنه نسب الظلم إلى القرى في أكثر من موضع فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 48]. وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] إلا مكة فإنه لم ينسب الظلم إليها، وإنما نسبه إلى أهلها تعظيمًا لها أن ينسب إليها الظلم وتكريمًا فقال: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75]. وهو من لطيف مراعاة المقام. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 24 إلى ص 27. (1) الكشاف 2/321. (2) البحر المحيط 6/297. (3) التحرير والتنوير 17/17. (4) روح المعاني 17/12. (5) انظر كتابنا (معاني النحو) 2/243 وما بعدها.