عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿٤﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٤]
{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)}
جاء في (الكشاف): « فإن قلت: هلا قيل: {يَعْلَمُ السِّرَّ} ولقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}؟
قلت: القول عام يشمل السر والجهر فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان أكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السر.
كما أن قوله {يَعْلَمُ السِّرَّ} أكد من أن يقول: (يعلم سرهم)، ثم بين ذلك بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية؟" (۱). قد تقول: لقد قال سبحانه في سورة الفرقان: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6].
فقال في آية الأنبياء: {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} بإفراد السماء.
وقال في آية الفرقان: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } بالجمع فلم ذاك؟
والجواب: إن القول أعم من السر، فهو يشمل السر وزيادة كما ذكر صاحب الكشاف، فإن القول يكون سرًا وجهرًا، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8].
وإن السماء أعم من السماوات (2).
فناسب العموم والخصوص الخصوص.
وقد تقول: ولم قال في آية الأنبياء {يَعْلَمُ الْقَوْلَ}.
وقال في آية الفرقان: {يَعْلَمُ السِّرَّ }
والجواب أنه ذكر النجوى وما قالوه فيها في آية الأنبياء، والنجوى قول، فناسب ذلك أن يقول: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ}.
وليس في آية الفرقان مثل ذلك، وإنما هي في سياق آخر فذكر السر. فقد قال قبل آية الفرقان: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)}، فقالوا إنه أساطير الأولين اكتتبها، أي كتبت له وأمليت عليه، وهذا مما فعل في السر، فناسب ذكر السر.
جاء في (الكشاف) أن أسلوب آية الأنبياء خلاف أسلوب آية الفرقان "من قبل أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إن ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة.
وثم قصد وصف ذاته بأن أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، فهو كقوله: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}، (3).
لقد ختم هذه الآية - أعني آية الأنبياء - بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بذكر صفتي السمع والعلم، ذلك أنه ذكر ما يسمع وما يعلم. فإن التناجي قول، والقول مما يسمع، وذكر الإسرار وهو مما يعلم، فناسب ختم الآية بهذين الوصفين الجليلين.
وعرفهما للحصر، فهو الكامل في هذين الوصفين دون غيره، فليس ثمة ذات أخرى تتصف بهما على نحو ما يتصف به سبحانه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 21 إلى ص 23.
(۱) الكشاف ۲/۳۲۱ وانظر البحر المحيط 6/۲۹۷، روح المعاني ١٢/٣٢٦.
(۲) انظر كتابنا (التعبير القرآني) ٥٢ – ٥٣.
(3) الكشاف 2/321.