عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴿٣﴾    [الأنبياء   آية:٣]
{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) } {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} "اللاهية من (لها عنه) إذا ذهل وغفل" (1). أسند اللهو وهو الذهول والغفلة إلى القلوب؛ لأن القلوب هي آلة الفقه والعلم، وهي آلة التدبر والهدى، وربنا يسند ذلك إليها أو ينفيه عنها. قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأعراف: 179]. وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]. وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. فإذا غفلت غفل صاحبها، وإذا عقلت عقل صاحبها، فوصف قلوبهم بالغفلة الثابتة فقال: (لاهية) بالاسم. والوصف بالاسم هنا مناسب لوصفهم بالغفلة التي تغمرهم والإعراض الثابت في قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} فيه مبالغة في الإسرار والإخفاء، ذلك أن النجوى إنما تكون في السر، فإذا قلت: (تناجي فلان وفلان) فمعنى ذلك أنهما أخفيا حديثهما، فإذا قلت: (أسرّا النجوى) أفاد ذلك المبالغة في الإخفاء. فالأسرار يفيد الإخفاء عن غير الذي تسر إليه الحديث. والتناجي يفيد الإخفاء أيضًا. فإذا قلت: (أسرّ النجوى) فقد بالغت في الإخفاء. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية فما معنى قوله: {وَأَسَرُّوا}؟ قلت: معناه: وبالغوا في إخفائها... أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون" (2). إن قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} يحتمل أوجهًا إعرابية متعددة، منها أن {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من الواو في {أَسَرُّوا}، فقد أسند الإسرار إليهم على وجه العموم ثم بين الذين أسروا فقال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا.} وهذا نظير ذكر الناس على العموم في قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ }ثم بين المقصود بهؤلاء الناس فيما بعد. وهو تناظر لطيف. ويحتمل أن التعبير مبني على التقديم والتأخير، فقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} جملة خبر مقدم، و {الَّذِينَ ظَلَمُوا } مبتدأ مؤخر، فيكون من باب تقديم الخبر لغرض الاهتمام. ويحتمل أن يكون {الَّذِينَ ظَلَمُوا } منصوبًا على الذم أو على إضمار (أعني). وكل هذه الأوجه على اختلاف التقديرات تفيد الاهتمام والعناية كل بحسب ما يدل عليه. وقيل: إنما هو على لغة (أكلوني البراغيث) أي على لغة من يجعل هذه الضمائر حروفًا تدل على الفاعل فيقولون: أقبلا الرجلان، وأقبلوا الرجال، وأقبلن النسوة. والأولى تخريجها على لغة سائر العرب وما في ذلك من دلائل معنوية. جاء في (الكشاف): "أبدل {الَّذِينَ ظَلَمُوا } من واو {وَأَسَرُّوا} إشعارًا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به، أو جاء على لغة من قال: (أكلوني البراغيث)، أو هو منصوب المحل على الذم، أو هو مبتدأ خبره {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قدم عليه. والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم" (3). {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أنكروا أن يرسل الله بشرًا مثلهم، فإنه لابد – فيما يرون- أن يكون الرسول من الله ملكًا وهذه شبهة كثير من المجتمعات البشرية، فقد ذكر ربنا عن مجموعة من المجتمعات البشرية أنهم قالوا لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [إبراهيم: 10]. وقال في قوم نوح إنهم قالوا في رسولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24]. وقال في قوم بعد قوم نوح في رسولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 33 - 34]. وكذلك من بعدهم. وأخبر ربنا أن هذه الشبهة منعت الناس من الإيمان فقال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94]. وكذلك هي شبهة كفار قريش، ولذا أمر ربنا رسوله في أكثر من موضع أن يقول لهم إنه بشر مثلهم فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110، فصلت: 6]. جاء في (الكشاف): "اعتقدوا أن رسول الله  لا يكون إلا ملكًا، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر" (4). "والسحر عنوا ما ظهر على يديه من المعجزات" (5). وجملة {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تحتمل أن تكون بدلاً من النجوى، أي أسروا هذا القول. وتحتمل أن تكون مفعولاً به لقول محذوف، أي وأسروا النجوى قائلين: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} جاء في (الكشاف): "هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من النجوى، أي وأسروا هذا الحديث. ويجوز أن يتعلق بـ (قالوا) مضمرًا" (6). وذكرت أوجه أخرى (7). قد تقول: لقد ههنا: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ} وقال في سورة (طه): {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} [طه: 62 – 63]. فذكر القول إضافة إلى الإسرار فقال: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ....} ولم يذكر ذلك في آية الأنبياء فما الفرق؟ فنقول: إن ذكر القول مع ذكر النجوى أكد وأهم؛ لأنه ذكر القول مع ما فيه معنى القول. فإن النجوى معناها القول، ثم ذكر القول إضافة إلى ذلك، فكأنه قد كرر اللفظ فكان أكد. وذلك أن الموقف في (طه) أشد، فإن السياق فيها إنما هو في موسى وفرعون وما حصل بينهما من المناظرة والمشادة بعدما رأوا الآيات وكذبوها وزعموا أنها سحر، وأن موسى وأخاه ساحران. وتحدوه بأنهم سيأتونه بسحر مثله. ثم إن فرعون جمع كيده {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)} فالموقف في (طه) موقف تحد ومواعدة وامتحان ومغالبة، فكان الموقف أشد مما في الأنبياء الذي ليس فيه شيء من ذلك. فناسب ذكر القول إضافة إلى ما في معناه في آية (طه) دون آية الأنبياء. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 17 إلى ص 21. (1) الكشاف 2/320. (2) الكشاف 2/320 وانظر البحر المحيط 6/296 – 297. (3) الكشاف 2/ 320 – 321، وانظر البحر المحيط 6/296 – 297. (4) الكشاف 2/321. (5) البحر المحيط 6/297. (6) الكشاف 2/321، تفسير أبي السعود 3/684. (7) انظر روح المعاني 17/8.