عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴿٢﴾    [الأنبياء   آية:٢]
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)} ذكر من مظاهر إعراضهم أنه ما يأتيهم شيء من القرآن يذكرهم إلا استمعوه وهم في لعب ولهو غير ملتفتين إلى شيء من ذ ذلك. وقال: {مَا يَأْتِيهِمْ} فنفاه بـ (ما) للدلالة على شأنهم في الحال. ولم م يقل (لا يأتيهم) فينفيه بـ (لا) التي تدل على نفي المضارع في المستقبل غالبًا، وإنما ذكر حالتهم آنذاك، وذلك أن (ما) النافية إذا دخلت على المضارع أفاد الحال. وقال: {يَأْتِيهِمْ} للدلالة على تجدد الإتيان واستمراره، ولم يقل: (ما أتاهم) التي قد تفيد حالة من حالات الماضي. وقال: {مِنْ ذِكْرٍ} بـ (من) الاستغراقية التي تفيد التوكيد والاستغراق، فهم يعرضون ويلهون عن كل ذكر يأتيهم من ربهم وليس عن ذكر دون ذكر. قال: {مِنْ رَبِّهِمْ} وهذا أسوأ شيء، فإن الذكر إنما هو من ربهم الذي هو خالقهم ومربيهم ورازقهم ومتولي أمرهم. وهذا أسوأ إعراض. فإنه لو كان اللهو والإعراض عن الذكر من جهة أخرى لكان أقل سوءًا ونكرًا، فكيف وقد أتاهم الذكر من ربهم؟ ثم قال: {مُحْدَثٍ} أي جديد ينزل إليهم بعد ذكر سابق. فهم يعرضون عن كل ذكر ينزل على ما فيه من فنون الموعظة والتذكير. ثم قال: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} ولم يقل: (سمعوه) مجرد السماع من دون ذلك معرفة بما فيه، وإنما استمعوا الموعظة وأدركوا مغزاها ومع استمعوها وهم يلعبون لاهين عابثين غير عابئين بها ولا ملتفتين إليها بل استمعوها لاهين ساخرين. جاء في (الكشاف): "قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ بأن الله يجدد لهم الذكر وقتًا فوقتًا، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم استماع الآية والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر التي هي أحق الحق وأجد الجد إلا لعبًا وتلهيًا واستسخارًا. والذكر: هو الطائفة النازلة من القرآن (1). وقال ههنا: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)} فقال: (من ربهم). وقال في الشعراء: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} فقال: (من الرحمن) وذلك أنه ذكر في سياق آية الأنبياء صفات أشد سوءًا مما ذكره في الشعراء مما يبعدهم عن الرحمة. فقد ذكر في الشعراء أنهم معرضون عن الذكر، وقال: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) } فذكر أنه ستأتيهم الأنباء ولم يقل سيأتيهم العذاب. في حين قال في سورة الأنبياء إنهم في غفلة وإنهم معرضون، وإنهم يستمعون الذكر وهم يلعبون، لاهية قلوبهم، وإنهم قالوا عن رسولهم ليس إلا بشرًا، وإن ما جاء به سحر، وإنه أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر، وإنهم أرادوا آية كما أرسل الأولون. فكانوا أبعد عن الرحمة. وقال أيضًا: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } وقال: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} وقال: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} وقال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} كل هذا لا يناسب الرحمة لأنه في مقام الإهلاك. وأما في الشعراء فقد قال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} فإن الله أرحم بك من ذلك. وقال: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فذكر أنه تأتيهم الأنباء ولم يذكر العقوبة. ثم ذكر من مظاهر رحمته في الأرض فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ثم كرر قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ثماني مرات في السورة. ثم قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} فذكر العزيز الرحيم تسع مرات. فناسب ذلك ذكر اسمه (الرحمن). فناسب ذكر (الرب) في آية الأنبياء، وذكر الرحمن في آية الشعراء. جاء في (ملاك التأويل) في سبب الاختلاف بين هاتين الآيتين: "أن اسمه سبحانه (الرحمن) يغلب وروده حيث يراد الإشارة إلى العفو والإحسان والرفق بالعباد والتلطيف والتأنيس... وأما اسمه الرب فيعم وروده في طرفي الترغيب والترهيب... ولما تقدم قبل آية الأنبياء من الأخبار ما طيه وعيد وترهيب مع تلطفه سبحانه بهم بتذكيرهم لم يكن ليناسب ذلك ورود اسمه الرحمن. ألا ترى أن قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أشد تخويفًا للمخاطبين... وأما آية الشعراء فمبنية على تأنيس النبي  وإعلامه أن توقف قومه عن الإيمان إنما هو بقدرته تعالى ولو شاء لأراهم آية تبهرهم كنتق الجبل فوق بني إسرائيل. وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] ثم رجع الكلام إلى تعنيف المكذبين. فلما كان بناء الآية على التأنيس والتلطف بنبينا  وإعلامه بأن تأخير العذاب عنهم إنما هو إبقاء منه تعالى ليستجيب من قدر له الإيمان منهم. فأشار إلى هذا وناسب اسمه الرحمن فقال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} فقد وضح ورود كل من الاسمين في موضعه على ما يجب ويناسب (2). وجاء (كشف المعاني) لابن جماعة أنه "لما تقدم هنا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ }وذكر إعراضهم وغفلتهم وهو وعيد وتخويف فناسب ذكر الرب المالك ليوم القيامة المتولي ذلك الحساب. وفي الشعراء تقدم {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً} لكن لم يفعل ذلك لعموم رحمته للمؤمنين والكافرين لم يشأ ذلك، ويقوي ذلك تكرير قوله تعالى في السورة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 13 إلى ص 16. (۱) الكشاف ۲/۳۲۰. (2) ملاك التأويل ٢/٦٩٢ - ٦٩٤. (3) كشف المعاني ٢٥٤.