عرض وقفة أسرار بلاغية
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]
جعل ربنا الإصلاح عاصمًا من الهلاك، أي ما صح وما استقام أن يهلك ربنا القرى التي أهلكها أو غيرها من القرى (بظلم) أي ظالمًا لها وأهلها مصلحون (1).
فإذا كان أهل القرى يتعاطون الإنصاف فيما بينهم فإن ربنا لا يهلكهم.
فإذا تظالموا أهلكهم كما قال: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
قد تقول: لقد قال تعالى في سورة الأنعام: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131].
فقال في آية الأنعام هذه: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى}
وقال في هود: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى}
وقال في الأنعام: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}
وقال في هود: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}
فلم ذاك؟
فنقول: إن آية الأنعام إنما هي في الآخرة والكلام على ما كان في الدنيا، قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 130 – 131].
فالكلام على ما مضى فقال: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} أي إن ذلك الأمر قد وقع لأنه لم يكن ربك قد أهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، من دون إقامة حجة عليهم وإرسال الرسل إليهم. فذكر أنه بلغهم وأرسل الرسل إليهم وأقام الحجة عليهم، وهم أقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم فاستحقوا العقوبة.
وأما آية هود فالكلام فيها على الدنيا.
وما ورد فيها عام يشمل الماضي والحال والاستقبال. فإن ربنا لا يهلك القرى إذا كان أهلها مصلحين.
قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70].
وهذا في الأمم السابقة.
وقال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
وقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُم} [النساء: 168]
فالحكم عام كما ترى. وهو كذلك في آية هود يشمل جميع الأزمنة.
وأما خاتمة كل من الآيتين فهي مناسبة لسياق كل منهما.
فقد ختم آية الأنعام بقوله: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} "لأن سياق الكلام في ذكر الرسل والإنذار والتبليغ. قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 130 – 131]
فأنت ترى أن سياق الكلام في ذكر الرسل والإنذار والتبليغ وتبيان أن الله لم يهلك أقوامًا غافلين لم يُنذروا ولم يكلفوا، فإن من لم ينذر فهو غافل. قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] وما كان الله ليهلك مثل هذه الأقوام، ولذا ختمها بقوله: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}
وأما آية هود فهي في الكلام على الإصلاح والنهي عن الفساد في الأرض، ولذا ختمها بالإصلاح قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116 - 117].
فناسب ختام كل آية السياق الذي هي فيه" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 365 إلى ص 367.
(1) انظر روح المعاني 12/163.
(2) التعبير القرآني 276 – 277، وانظر درة التنزيل 131 – 132.