عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴿١١٦﴾ ﴾ [هود آية:١١٦]
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116 – 117]
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}
أي فهلا كان من الأمم التي قبلكم أولو فضل وخير ينهون عن الفساد في الأرض.
و(هلا) تفيد التحضيض والتندم والتأسف والتحسر، أي هلا فعلوا ذلك فلم يصيبهم ما أصابهم.
والمعنى: ليتحسر عليهم العباد وليتفجعوا عليهم لما أصابهم، وهو نظير قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30].
جاء في (تفسير الثعالبي): "{لَوْلَا} هي التي للتحضيض، لكن يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد. وهذا نحو قوله سبحانه {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ}
والقرون من قبلنا قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره" (1).
و(أولو بقية) "أولو فصل وخير، وسمي الفضل والجود بقية؛ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلًا في الجودة والفضل" (2).
وفي قوله: {بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} تحضيض لهذه الأمة وتنبيه لها لتفعل ذلك، وتحذير لمن لم يفعل أن يصيبهم مثل ما أصاب الأولين.
وقوله: {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} مناسب لما جاء بعده وهو قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} ، فأن المصلح يصلح ما فسد.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 362 إلى ص 364.
(1) تفسير الثعالبي 3/307، وانظر روح المعاني 12/160.
(2) الكشاف 2/119، وانظر البحر المحيط 5/271.
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ}
أي اتبعوا الشهوات و ما أنعموا فيه.
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل: (تبع) للدلالة على المبالغة في ذلك.
وقال: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل: (واتبع الناس) أو (أولئك) ليدل على أنهم فعلوا ذلك إضافة إلى ظلمهم.
وكل من الوصفين مدعاة إلى العقوبة.
{وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} أي إضافة إلى ما مضى من الظلم واتباع الشهوات كانوا مجرمين "أي مرتكبي جرائم غير ذلك" (1).
فذكر فيهم عدة مساوئ كل منها مدعاة إلى العقوبة.
1- فقد قال: {وَاتَّبَعَ} أي بالغوا في الاتباع.
2- وقال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} فاتصفوا بالظلم.
3- وقال: {مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي من التنعم واتباع الشهوات.
ولم يرد الإتراف في القرآن إلا وصفًا سيئًا مدعاة إلى العقوبة في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ...} [المؤمنون: 33] وقال فيما قال في أصحاب الشمال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45].
وقال: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64].
4- وقال: {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} أي مرتكبي جرائم غير ذلك.
5- ووصفهم بالإجرام على جهة الثبوت فقال: {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} فجاء بالاسم ليدل على ثبات هذا الوصف فيهم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 364 إلى ص 365.
(1) روح المعاني 12/162.