عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿١١٥﴾    [هود   آية:١١٥]
{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115] {وَاصْبِرْ} " أي على مشاق امتثال ما كلفت به" (1) من الاستقامة على ما أمر به وإقامة الصلاة وغيرها من الطاعات، وعلى ما نهاه عنه. وأطلق الأمر بالصبر ولم يقيده بشيء ليشمل كل ما يقتضي الصبر. وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وفيه إيماء إلى أن الصبر من الإحسان (2).وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ولم يقل: (إن الله لا يضيع أجركم) أو أجر من فعل ذلك ونحوه للإطلاق وليشمل كل من فعل ذلك وكل محسن. فدخل في ذلك كل من فعل هذا الفعل وكل من أحسن، سواء فعل هذا الفعل أم غيره من وجوه الإحسان. جاء في (روح المعاني): "وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك. وهو تعليل للأمر بالصبر (3). قد تقول: لقد قال في آية سابقة من السورة: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]. وقال ههنا: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فاختلف ختام كل من الآيتين، فقال في الآية الأولى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}. وقال في هذه الآية: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فما السبب؟ فنقول: إن سبب الاختلاف بين الخاتمتين أن الآية الأولى ليس فيها أمر بعمل ولا طلب بتكليف، فذكر أن العاقبة للمتقين، أي للذين يتقون الله. ولو اتقى قوم نوح ربهم ما حل بهم ما حل. ثم إنه أيضًا لم يذكر الأجر كما ذكر في الآية الثانية، لأن الأجر إنما يكون على العمل وهو لم يذكر عملًا في الآية. هذا ومن ناحية أخرى أنه حيث ذكر عاقبة أهل الفلاح ذكر المتقين والتقوى وذلك نحو قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }، وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} ولم يذكر غيرهم من أهل الفلاح. وأما في هذه الآية فإنه أمرهم بأوامر ونهاهم عن نواه فناسب ذكر الإحسان، فإن من الإحسان ما يكون في العمل كما قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]. وقد تقول: ولم يقل هنا: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} كما قال في آية الكهف؟ فنقول: إن كل تعبير في مكانه أنسب، فقد قال في الكهف: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} فقد ذكر الذين عملوا الصالحات، فناسب ذكر أجر من أحسن عملًا. وأما في سياق آية هود فقد ذكر أعمالًا وذكر أمورًا أخرى ليست أعمالًا، فقد ذكر إقامة الصلاة والأمر بالصبر، والصبر ليس عملًا. وذكر من تاب فقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} والتوبة ليست عملًا، وغير ذلك مما ذكر مما يناسب ذكر الإحسان. وقال في آية الكهف: {أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} فقال: (أحسن) بالفعل الماضي. وقال في آية هود: {لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فذكر المحسنين بالاسم، والاسم يدل على الثبوت كما هو معلوم. ذلك أنه قال في الكهف: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فقال: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بالماضي، فناسب أن يقول: {أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ} بالماضي. وأما في هود فقد ذكر أمورًا تدل على الدوام، فقد قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} والاستقامة إنما تكون على الدوام. وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} وإقامة الصلاة إنما تكون على الدوام والاستمرار. وقال: (واصبر) وهو أمر بالصبر على وجه الدوام وعلى الإطلاق، فناسب أن يذكر ما يدل على الثبات والدوام وهم المحسنون. والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 360 إلى ص 362. (1) روح المعاني 12/160. (2) انظر روح المعاني 12/160. (3) روح المعاني 12/160.