عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿١١٢﴾    [هود   آية:١١٢]
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] الاستقامة هي "لزوم المنهج المستقيم، وهو التوسط بين الإفراط والتفريط. وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق" (1). {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} معطوف على الضمير المستمر في (استقم) وهو الفاعل، وصح العطف للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله: {كَمَا أُمِرْتَ}، ولم لم يكن بينهما فاصل لكان ضعيفًا. ولا يصح عطف على التاء في (أمرت) وهو نائب الفاعل لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى. أما من حيث اللفظ فلعدم الفاصل، وأما من حيث المعنى فلأنه سيكون المعنى أنه أمر هو ومن تاب معه، وأنه طلب منه وحده الاستقامة على ما أمروا به، ولم تطلب الاستقامة ممن تاب معه ، أي استقم كما أمرتم.وهذا لا يصح. قد تقول: لقد قال ههنا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ} وقال في الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى: 15] ولم يقل: (ومن تاب معك). كما لم يقل في آية هود: (فلذلك فادع). فما السبب؟ فنقول: أما قوله في الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} دون آية هود فلأنه ذكر التفرق في أهل الأديان وقد كان نهاهم عنه، فقد قال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]. ثم قال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. فقال مخاطبًا رسوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أي ادع إلى الائتلاف وعدم التفرق. جاء في (روح المعاني): "(فلذلك) أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفوق ... (فادع) إلى الائتلاف والاتفاق على الملة الحنفية القديمة" (2). وقال أيضًا: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} فقال له: لا تأبه بالمشركين وداع لما أمرت به وإن كان كبر عليهم ذلك. ولم يتقدم مثل ذلك في هود، فلم يقل مثل ما قال في الشورى، وإلا لو قال ذلك لقيل: (لأي شيء أدعو؟) وأما قوله في آية هود: {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} فلأن الخطاب موجه إليه  وإلى من معه ثم يستمر في خطابهم قائلًا {وَلَا تَطْغَوْا}، {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]. وأما في آية الشورى فالخطاب خاص برسول الله وهو موجه له على سبيل الخصوص. فقد قال {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}، {وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ}، {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}. فلما كان الخطاب خاصًا برسول الله مأمورًا على وجه الخصوص لم يذكر من معه، ولا يناسب أن يذكروا. وقد تقول: ولم قال: (ومن تاب) دون (من آمن) مثلًا أو نحو ذلك؟ فنقول: إن الذي يتوب إنما يتوب من معصية، وفاعل المعصية عليه بعد التوبة أن يستقيم فناسب ذكره في السياق. {وَلَا تَطْغَوْا} أي لا تتجاوزوا الحد الذي أمرتم به، فطلب منهم الاستقامة على ما أمروا به وألا يتجاوزوا ذلك. فناسب أن يذكر (ولا تطغوا) بعد قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} لأن عليهم أن يعلموا أولًا ما أمروا به فلا يتجاوزوه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 355 إلى ص 357. (1) روح المعاني 12/152. (2) روح المعاني 25/23.