عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿١١١﴾    [هود   آية:١١١]
{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111] أي إن كلًا من قومك وغيرهم سيوفيهم ربك أعمالهم. وقال: (ليوفينهم) بالفعل المضارع المؤكد الدال على الاستقبال ليدل على أن ذلك سيكون حتمًا. وقد أكد الفعل بلام القسم والنون لما أكد شكهم بإن واللام فقال: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} فلما كان شكلهم مؤكدًا أكد توفيه أعمالهم. ألا ترى أنه لما خاطب عيسى عليه السلام لم يؤكد العذاب ولا توفيه الأجور لأنه ليس في مقام شك، وذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 55 - 57]. فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ} من دون توكيد. وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} من دون توكيد. فناسب كل تعبير موضعه. وقد تقول: لقد قال في آية سابقة: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ }بالاسم (موفوهم). وقال ههنا: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} بالفعل، فما السبب؟ فنقول: إن كل تعبير مناسب لموضعه. فقد قال في الآية الأولى: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فذكر النصيب ولم يذكر أن النصيب لم يكتمل. وأما في هذه الآية فقد قال: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فقال: {بِمَا يَعْمَلُونَ}، و(يعملون) فعل مضارع يحتمل الحال والاستقبال، فهم لم ينتهوا من أعمالهم بعد. والتوفية إنما تكون بعد انتهاء العمل. فلما لن ينته العمل لم يأت بالاسم الدال على الثبوت، وإنما جاء بالفعل المضارع الدال على عدم الانتهاء. وقدم {بِمَا يَعْمَلُونَ} على (خبير) لأن الكلام على الأعمال، فقد قال:{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} فناسب تقديم العمل. وقال: (خبير) لأنه ذكر أنهم في شك، والشك أمر قلبي فاحتاج إلى الخبرة، والخبرة: المعرفة ببواطن الأمر (1). والخبير: هو الذي يعلم بواطن الأمور، و(خبرت الأمر أخبره) إذا عرفته على حقيقته (2). فناسب ذلك ما ورد في سياقه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 353 إلى ص 354. (1) المفردات في غريب القرآن (خبر). (2) لسان العرب (خبر).