عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ﴿١٠٩﴾ ﴾ [هود آية:١٠٩]
{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]
نهاه في آية سابقة عن أن يكون في مرية مما أنزل إليه فإنه الحق من ربه فقال له: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}
ونهاه ههنا أن يكون في مرية مما يعبد قومه فإنهم متبعون لآبائهم. وقوله: {مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} يحتمل معنين:
الأول: أن تكون (ما) اسمًا موصولاً، أي مما يعبده هؤلاء من الآلهة، فـ (ما) ههنا تعني آلهتهم.
والأخر: أن تكون (ما) مصدرية، فيكون المعنى: فلا شك من عبادة هؤلاء (1).
فمعبوداتهم وعبادتهم باطلتان. فقد يكون المعبود حقًا والعبادة باطلة كما هو شأن كثير مما نرى، فإن المعبود هو الله وهو الحق وقد تكون العبادة باطلة كما هو شأن أهل الكتاب والمبتدعين ونحو ذلك.
وأما هؤلاء فمعبوداتهم وعبادتهم كلتاهما باطلتان فجاء بما يجمع هذين المعنيين.
وقال: {إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} والأصل أن يقول: (كما عبد آباؤهم) إلا أنه عدل إلى صيغة المضارع للدلالة على أن ذلك كان عادة لهم وهو ما يسمى بالماضي المستمر أو المضارع المعتاد، ويكون بالفعل المضارع مسبوقًا بـ (كان)، فكان الأصل في هذا المعنى أن يقال: (إلا كما كان يعبد آباؤهم)، وقد دل قوله تعالى: (من قبل) على المضي.
جاء في (روح المعاني): "ومعنى (كما يعبد) كما كان عبد، فحذف لدلالة (قبل) عليه. وكأن اختيار هذا للإشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة لهم" (2).
ومعنى ذلك أن هؤلاء سيصيبهم مثل ما أصاب الأولين ممن قصصنا عليك من سوء عاقبتهم.
وقد تقول: ولم لم يقل: (كما كان يعبد آباؤهم) كما قال في آيات أخرى، وذلك نحو قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [الأعراف: 70].
وقوله: {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [إبراهيم: 10].
فنقول: إن قوله: {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} يفيد الاتصال مع آبائهم في العبادة. ولو قال: (ما يعبدون إلا كما كان يعبد آباؤهم من قبل) لاحتمل الاتصال والانقطاع، وليس ذلك نصًا في اتصال الأبناء بالآباء في العبادة.
فإن قولنا: (أعبد ما كان يعبد أبي) يحتمل الانقطاع والاتصال، فقد يحتمل أن أباه كان يعبد شيئًا ثم انقطع عن عبادة ذلك الشيء وأصبح يعبد شيئًا أخر، وذلك نحو كثير من الصحابة كابن عباس وابن عمر، فقد كان آباؤهم يعبدون الأصنام في الجاهلية ثم أسلموا وعبدوا الله سبحانه، فلو قال ابن عمر مثلًا (أعبد ما كان يعبد أبي) لم يصح ذلك، بخلاف ما لو قال (أعبد ما يعبد أبي). ويحتمل الاتصال أيضًا.
وأما قولنا: (أعبد ما يعبد أبي) فهو يفيد الاتصال وأنه مستمر على نحو عبادة أبيه.فقوله تعالى: {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} يفيد الاتصال ومماثلة عبادة هؤلاء لعبادة آبائهم. وقوله: {مِنْ قَبْلُ} يفيد الزمن الماضي في عبادة آبائهم وأنه متصلة متماثلة منذ الزمن الماضي.
فلو قال: (ما يعبدون إلا كما كان آباؤهم) ولم يقل (من قبل) لربما أفاد ذلك عبادة آبائهم الأقربين إليهم دون القدامى.ولو قال: (ما يعبدون إلا كما كان آباؤهم) لربما أفاد الانقطاع واحتمل الاتصال.ولكنه قال: {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} فأفاد الاتصال والمضي.
وقد تقول: ولم قال إذا في آيات أخرى: {وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} ونحو ذلك بذكر (كان)؟
فنقول: إنه حيث قال ذلك جاء بما يفيد الاتصال بعبادة آبائهم، فقد قال مثلًا: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] فإنه واضح من التعبير أنهم يعبدون ما كان يعبد آباؤهم، وأنكروا على رسولهم دعوته إلى التوحيد.
ونحو ذلك قوله: {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [إبراهيم: 10] وقوله: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ} [سبأ: 43].
فاتضح الفرق.
{وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}
أي حظهم من الخير والشر، فإنا موفوهم ما كتب لهم من الخير والشر كاملًا غير منقوص.
وأسند الإيفاء إليه سبحانه بضمير التعظيم، ولم يقل: (وهم سيوفون نصيبهم غير منقوص) ليدل على أنه سبحانه وحده بيده مقاليد الأمور من الخير والسوء. ولو قال: (سيوفون) لم يدل على أن الذي يفعل ذلك هو الله ولم تعلم الجهة التي ستوفيهم ذلك.
وقال: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ} بالاسم ولم يقل: (وإنا سنوفيهم) بالفعل للدلالة على ثبات هذا الأمر وأنه مقطوع بحصوله، وقد أكد ذلك بإن واللام إضافة إلى اسمية الحدث.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 348 إلى ص 351.
(1) انظر الكشاف 2/117، روح المعاني 12/147.
(2) روح المعاني 12/147 – 148.