عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴿١٠٧﴾ ﴾ [هود آية:١٠٧]
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} أي أرض الآخرة وسماؤها. وأما هذه الأرض والسماوات فستبدل كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم: 48] وذلك يدل على الدوام غير المنقطع.
وقيل في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أقوال منها: أن هذا الاستثناء يعني حالهم في البرزخ وفي يوم الحساب قبل أن يقتضي الله بين الخلائق.
وقيل: هو استثناء من أنواع العذاب المذكورة فيصيرون إلى عذاب آخر.وقيل غير ذلك والله أعلم.قد تقول: لقد قال في سورة الأنعام: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]. فقال: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فأسند المشيئة إلى لفظ الجلالة (الله).وقال ههنا في آية هود: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} فأسند المشيئة إلى رب مضافًا إلى ضمير مخاطب. فما السبب؟فنقول: إن الكلام في الأنعام إنما هو خاطب من الله للكافرين من معشر الجن و الإنس، فقد قال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فهو سبحانه بخاطب الإنس والجن وليس يخاطب الرسول، فلا يصح أن يقول: (إلا ما شاء ربك).ولما انتهى من خطابهم التفت إلى الرسول فقال له: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} كما اختلفت خاتمة كل من الآيتين، فقد ختمها في آية هود بما يدل على القدرة وهو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وهو المناسب لما فعله ربنا في الأمم التي أهلكها مما ذكره في السورة، ومناسب لما ذكره من مشيئته سبحانه.وختمها في آية الأنعام بما يدل على الحكمة فقال: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} لما تردد من ذكر حكمته في السورة، فقد ختم عدة آيات بذلك، فقد قال: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} في آيتين وهما الآية الثامنة عشرة والآية الثالثة والسبعون.وقال: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} و{إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} في ثلاث آيات وهن: الآية الثالثة والثمانون، والآية الثامنة والعشرون بعد المائة، والآية التاسعة والثلاثون بعد المائة.
فهذه خمس آيات ختمت آيات ختمت بالحكمة.في حين لم يرد في هود إلا واحدة وهي قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هذه إضافة إلى أنه قد ترددت الألفاظ المشتقة من الحكمة والحكم في الأنعام أكثر مما في هود.فقد قال: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].وقال: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }[الأنعام: 62].وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89].
وقال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114].
في حين قال في هود:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ} [هود: 1].
وقال: {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45].فقد ترددت الألفاظ المشتقة من الحكمة والحكم عشر مرات في الأنعام.وترددت أربع مرات في هود.
فناسب كل تعبير موضعه من أكثر من جهة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 344 إلى ص 347.