عرض وقفة أسرار بلاغية
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 106 - 107]
قدم الجار والمجرور (لهم) على (فيها) فقال: (لهم فيها) ولم يقل: (فيها لهم) لأن الكلام على الذين شقوا لا على النار فقدم ضميرهم على ضمير النار.
وذكر هنا أن لهم فيها زفيرًا وشهيقًا، وفي حين ذكر في موضع آخر أن لهم فيها زفيرًا وهم فيها لا يسمعون، ولم يذكر الشهيق. قال تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 97 - 100]. ذلك أن العذاب في آيات الأنبياء أشد من أكثر من جهة:
1- فقد ذكر الكفرة ومعبوديهم من دون الله فقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهذا إما أن يكون شركًا أو أكبر من الشرك وهو أكبر الذنوب.في حين ذكر الأشقياء على العموم في آية وهم أعم مما ذكره في الأنبياء. فإن من بين الأشقياء من لا يكون عبد الصنم، وقد يكون من أهل الكتاب. فذكر في آيات الأنبياء أشقى الأشقياء وهم الذين يعبدون من دون الله.
2- إنه ذكرهم وآلهتهم وجمعهم معًا في العذاب، وهو أشد تبكيتًا وإهانة لهم ولآلهتهم التي يعبدونها، فاقتضى ذلك زيادة تعذيبهم.
3- وإنه قال عنهم إنهم حصب جهنم، وهو أسفل النار، فإن الحصب إنما في القاع والنار تسعر عليه وبه.
4- قال: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} ولم يذكر الشهيق. فإن الإنسان يحتاج الشهيق ليزفر، وإن لم يستطع أن يأخذ الشهيق ضاق صدره. وهو ظاهر فيما نرى في المصابين بأمراض التنفس ممن لا يستطيع أن يأخذ الشهيق، فإن الدنيا تضيق به على سعتها، وهو مستعد أن يدفع كل ما يملك ليشهق.فدل ذلك على ضيق صدورهم، فهم يطلبون الشهيق ولكن لا يمكنون منه، وذلك من أشد العذاب. فإنه إذا كان الشخص في جنة ولم يستطع أن يأخذ الشهيق كان في عذاب، فكيف إذا كان مع ذلك في النار؟!
5- وأضاف إلى ذلك أنهم لا يسمعون فكان عذابًا آخر.
6- قال في آية هود: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فذكر استثناءً وهي مشيئته سبحانه. والله أعلم بهذه المشيئة، حتي قال بعضهم إنه قد تتسع رحمته فيدرك شيء منها هؤلاء المعذبين.ولم يقل مثل ذلك في آيات الأنبياء ولم يستثن، وإنما قال: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} فكان مل تعبير في مكانه هو المناسب.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 342 إلى ص 344.