عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴿١٠٥﴾ ﴾ [هود آية:١٠٥]
{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]
حذف الياء من (يأت) والأصل: (يأتي).
وحذف التاء من (تكلم) والأصل: (تتكلم)، في حين ذكر الياء في مواطن أخرى، قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [الأنعام: 158].
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 52 – 53].
"فحذف الياء من (يأت) واجتزأ بالكسرة في آية هود دون الآيتين الأخرين ولهذا الحذف سببه.
فقد ذكر الله في عدة مواطن من هود تعجل الذين كفروا للعذاب، كما تردد الوعد بقرب نزوله، فقد قال: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8].وقال قوم نوح: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32]. وقال صالح لقومه: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب} [هود: 64 - 65].وقال في قوم لوط: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81].وقال في موطن آخر: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83].فأنت ترى أنه تردد ذكر استعجال العذاب من ناحية، ومن ناحية اخرى أنه تردد الوعد بقرب حلوله، فكان من المناسب الحذف من فعل الإتيان إشعارًا بقرب حلوله.هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ذكر في سورة (هود) عقاب الأمم السابقة وهلاكهم، ثم ذكر أن يوم القيامة آت وأنه سيحل فيه عقاب الكافرين كما حل عقاب الأمم السابقة، وإن هو إلا أجل معدود فيحل، فحذف الياء من فعل الإتيان للدلالة على سرعة الإتيان.وليس الأمر كذلك من الآيات الأخرى.هذا ومن ناحية أخرى أنه تردد ذكر الإتيان باشتقاقاته المختلفة في كل من (الأنعام) و(الأعراف) أربعًا وعشرين مرة، وفي (هود) ثلاث عشرة مرة، فلما كثر الفعل في سورتي الأنعام والأعراف كثر البناء، ولما قل تردده في هود قلل من البناء ...ويمكن أن يضاف شيء أخر: وهو أنه لما منع الكلام في آية هود إلا بإذنه حذف من الكلام، فحذف الياء من (يأتي) وحذف التاء من فعل التكلم فقال: (تكلّمُ) ولم يقل: (تتكلم) إشعارًا بقلة الكلام في ذلك الوقت" (1).
وقدم (الشقي) على (السعيد) لأنه سبق الكلام على الأشقياء من الأمم المعذبة. ألا ترى أنه قدم السعداء على الأشقياء في آل عمران في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] فقدم الذين ابيضت وجوههم لأنه سبق الكلام على المسلمين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100] ويستمر الكلام في مخاطبة المؤمنين إلى أن قال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} فناسب كل تعبير سياقه الذي ورد فيه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 340 إلى ص 342.
(1) التعبير القرآني 109 – 110.