عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴿١٠١﴾ ﴾ [هود آية:١٠١]
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]
في هذه الآية أمور بيانية دقيقة نذكر منها:
1- أنه قال: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ} ولم يقل: (فلم تغن) ذلك أن النفي بـ (ما) أكد؛ لأنه جواب لـ (لقد)" (1).
و(لقد) جواب قسم مقدر، ويدل على ذلك الاستعمال القرآني في نحو هذا الاستعمال، فقد قال أصحاب الأعراف في الآخرة لأهل النار: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 48] فنفى بـ (ما) وذلك لشدة الأمر وفظاعته.وقال في هلاك أصحاب الحجر: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الحجر: 83 - 84] وقال الذي أوتي كتابه بشماله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة: 28] فنفى كل ذلك بـ (ما). في حين قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25].
فنفى عدم الإغناء بـ (لم)؛ ذلك لأنه عدم إغناء موقوت بالمعركة،، ثم إن هؤلاء مسلمون وقد انتصر فيما بعد. فنفى عدم الإغناء الشديد البالغ بـ (ما)، والذي هو دونه نفاه بـ (لم).
2- قال: {آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ} ولم يقل: (اللاتي) وذلك للدلالة على الكثرة، فإن الوصف لغير العاقل بالمفرد يدل على الكثرة، فقولك: (أنها جارية) يدل على كثرة الأنهار، وهي أكثر من (أنهار جاريات). ونحوه (أشجار مثمرات) و(أشجار مثمرة).
جاء في (روح المعاني): "قيل... إن (التي) في جمع غير عالم أكثر من (اللاتي)" (2).
فهذه الآلهة على كثرتها لم تغن عنهم شيئًا. ثم إن هذه قيلت في أمم متعددة ولكل منها آلهة، فاختار (التي) لتدل على الكثرة في نحو هذا.
3- وقال: (يدعون) بالفعل المضارع وذلك "لحكاية الحال الماضية أو للدلالة على استمرار عبادتهم لها" (3).
4- وقال: {مِنْ شَيْءٍ} فجاء بـ (من) المؤكدة الدالة على الاستغراق، أي لم تغن أي شيء، على سبيل الاستغراق.
وقوله: {مِنْ شَيْءٍ} يحتمل أن يكون المعنى نفي أي شيء من الإغناء أو أي شيء من الأشياء" (4).
5- قال: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي تخسير، فنفى بـ (ما) ولم ينف بـ (لم)، فلم يقل: (ولم يزيديهم) وذلك للتأكيد كما ذكرنا في نقطة سابقة.
ألا ترى أنه قال في آية أخرى على لسان سيدنا نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 5 - 6].
فنفى بـ (لم) فقال: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ} دون (ما)؛ وذلك لأن هذه الزيادة دون ما ذكره في سورة هود.
فقد قال في سورة نوح إن دعاءه زادهم فرارًا.
وما ذكره في سورة هود أن آلهتهم زادتهم هلاكًا وتخسيرًا.
ولا شك أن الزيادة في هود كانت أشد وأفظع فنفى بـ (ما).
6- قال تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} والتتبيب هو التخسير، غير أنه لم يقل: (وما زادهم غير تخسير) كما قال في قصة سيدنا صالح، فقد قال على لسان سيدنا صالح: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63].
وقال ههنا: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} ذلك أن التتبيب أشد من التخسير، فإنه تخسير وزيادة، ذلك أن معنى التتبيب: الهلاك والقطع والتخسير.فقد قيل: "إن مادة التباب تدور على التقطع وهو مؤد إلى الهلاك" (5). وذلك لأن المعصية التي ذكرت ههنا أكبر مما ورد على لسان نبي الله صالح، فإنها هنا في الكلام على الأمم التي كانت تعبد الآلهة من دون الله، وأما في قصة صالح فقد قال: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ}، فذكر عموم المعصية، وهي ولا شك دون ما ذكره في الأمم الهالكة من عبادة غير الله، فإن المعصية قد تكون صغيرة وقد تكون كبيرة.فما ذكره في الأمم السابقة في من أكبر المعاصي وأعظمها. ولا شك أن العقوبة على قدر المعصية.فناسب ذكر التتبيب معها دون ذكر التخسير، فكان كل تعبير في موضعه أنسب.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 335 إلى ص 338.
(1) انظر (معاني النحو) 4/128 وما بعدها.
(2) روح المعاني 12/138.
(3) روح المعاني 12/139.
(4) انظر روح المعاني 12/139.
(5) روح المعاني 30/260، وانظر القاموس المحيط (تب).