عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴿٧٩﴾    [هود   آية:٧٩]
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] فأجابوه أن ليس لهم في بناته أرب ولا غرض، وإنك تعلم غرضنا وما نريد، فلا تدعنا إلى ما ليس لنا فيه أرب ولا إرادة. وجيء بالمؤكدات كلها في ه هذا التعبير: 1- فقد قالوا: (لقد) فأكدوا ذلك بالقسم، فإن (لقد) قسم كما هو معلوم. ٢- وقالوا: (علمت) فجعلوا ذلك من علمه وأنه ليس من باب الظن. 3- وجاؤوا بالجملة الاسمية المنفية بـ (ما) للدلالة على ثبوت هذا الأمر و وكادته ولم يقولوا: (ليس لنا في بناتك من حق). 4- وجاؤوا بـ (من) الدالة على الاستغراق والتوكيد ليبينوا على أنه ليس لهم أي غرض في بناته وذلك على سبيل الاستغراق والشمول. 5- وأكدوا علمه بما يريدون بـ (إن) واللام فقالوا: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} فقد أكدوا علمه أولاً بأنه ليس لهم في بناته من حق. وأكدوا علمه بما يريدون بعد ذلك. 6- ثم إن قوله: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} يحتمل عدة معان: منها: أن (ما) اسم موصول فيكون المعنى: إنك تعلم الذي نريده، وحذف العائد. ومنها: أن تكون (ما) مصدرية فيكون المعنى: وإنك لتعلم إرادتنا. ويحتمل أيضًا أن تكون (ما) استفهامية فيكون المعنى: وإنك لتعلم ما الذي نريده. وهذه المعاني كلها محتملة: فهو يعلم الذي يريدونه، ويعلم إرادتهم. ويعلم أي شيء يريدون. ولو قال: (لتعلم ما نريده) لانتفى احتمال المصدرية. ولو قال (لتعلم الذي نريده) لانتفى احتمال الاستفهامية والمصدرية. ولو قال: (لتعلم ماذا نريد) لتعينت الاستفهامية وانتفى احتمال ما عداها. وجاء بهذا التعبير ليحتمل كل المعاني، وهي كلها مرادة ومطلوبة، فهو يعلم إرادتهم على العموم، ويعلم الذي يريدونه في مجيئهم هذا، ويعلم ما الذي يريدونه. قد تقول: ولكن لا يتبين وجه الاختلاف في المعنى من كل تعبير، فهو في النتيجة يدل على أمر واحد وهو أنه يعلم غرضهم. فنقول: نعم إنه يعلم غرضهم ولكن لكل تعبير معنى خاص به. فقولك: إنك تعلم إرادتنا، معناه أنك تعلم رغبتنا في أي شيء تكون، فهو يعلم إرادتهم مطلقًا سواء في هؤلاء أم في غيرهم، وسواء كان هناك ما يحقق الرغبة أم لا. وقولك: إنك تعلم الذي أريد، يدل على أمر معين يطلبه. فـ (الذي) اسم موصول معرفة، والمعرفة ما دل على شيء معين. وأما قولك: إنك تعلم ماذا أريد، فمعناه أنك تعلم أي شيء أريده على وجه العموم. فالمصدر يدل على العلم بالحدث، والاسم الموصول يدل على شيء معين، والاستفهام يدل على عموم ما يريد، فهو يدل على علمه بجواب الاستفهام. ومن الملاحظ أنه قدم ههنا عرض بناته على قومه قبل ذكر الضيف فقال: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} فذكر البنات ثم ذكر الضيف بعد ذلك. وقدم في الحجر ذكر الضيف قبل عرض البنات قائلًا: {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 68 - 71]. ذلك أنه في هود لم يجر حديث مع الضيف ولا حوار قبل مجيء القوم، وإنما كان الكلام مع أهل المدينة في غيبة الضيف، فلم يجر مع الضيف حديث بعد، فحاول الدفع ببناته. وأما في الحجر فإنه كان له حديث مع الضيف قبل مجيء قومه، فقد قال لضيفه: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الحجر: 62 - 64] فكان مع ضيفه حديث ومحاورة، فلما جاء أهل المدينة أشار إلى ضيفه: {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ} [الحجر: 68 - 69]. فلما كان الحديث مع الضيف ناسب تقديمهم والإشارة إليهم في الحجر. ولما لم يكن مع ضيفه كلام في هود بل لا يزال الحديث مع قومه والضيف غائبون لم يشر إليهم لأنهم غير حاضرين، فقدم عرض بناته أولًا. فناسب كل موضعه . ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 303 إلى ص 306.