عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴿٧٦﴾ ﴾ [هود آية:٧٦]
{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76].
{يَا إِبْرَاهِيمُ} نداء على تقدير القول، أي قلنا أو قالت الملائكة (1).
ولم يقل: قلنا أو نحو ذلك، وإنما حذف ذلك لنكون كأننا نسمع النداء يصدر إلى إبراهيم وأمره بالكف عن الجدال.
وتقدير (قلنا) مناسب لقوله: (يجادلنا).
وتقدير (قالت الملائكة) مناسب لقولهم: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}
وحذف القول ليحتمل الأمرين المناسبين للسياق.
{إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} بإدخال (إن) المؤكدة على ضمير الشأن لتفخيم الأمر وتعظيمه. فلم يقل: (إن أمر ربك قد جاء) بل جاء بضمير الشأن الدال على التعظيم والتفخيم.
{قَدْ جَاءَ} جاء بـ (قد) التي تدل على التحقيق والتوقع والتقريب، أي إن مجيء الأمر قد تحقق وقرب وقوع العذاب، وهو متوقع وقوعه على هؤلاء القوم المجرمين.
{وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي غير مردود "بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما" (2).
وجاء باسم الفاعل (آتيهم)، وباسم المفعول (غير مردود) للدلالة على ثبوت الأمر واستقراره، ولم يقل: (يأتيهم) ولا (لا يردّ) الدالين على الحدوث، بل جاء بما يدل على الثبوت والاستقرار.
فانظر كيف جاءت الآية بكل ما يدل على التأكيد والتفخيم والتعظيم:
1- فقد قال: {يَا إِبْرَاهِيمُ} فحذف فعل القول للإيجاز وكأن النداء صدر من العلي الأعلى بالكف.
۲- وقال: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} فأمره بالكف عن الكلام في هذا الأمر، ولم يقل: (كف عن هذا) وذلك لأن الإعراض أبعد في الكف، فإن معنى (أعرض عنه) صدّ عنه وولى عنه وليس مجرد ترك الكلام.
فكأنه أراد أن يصد عن الكلام والانصراف عنه، وهو أبعد من مجرد السكوت عن الكلام.
3- وجاء بـ (إن) المؤكدة فقال: (إنه).
4- وأدخلها على ضمير الشأن الدال على التفخيم والتعظيم.
5- وجاء بـ (قد) التي تدل على التحقيق والتوقع والتقريب.
6- وأدخلها على الفعل (جاء) ولم يأت بالفعل (أتى) وذلك للدلالة على شدة الأمر وصعوبته، فإن (جاء) يستعمل في القرآن لما هو أعسر وأصعب من (أتى) الذي هو المجيء بسهولة (3).
7- وجاء بـ (الأمر) الذي يدل على الشأن، ويدل على الأمر واحد الأوامر من: أمره بالشيء.
8- وأضافه إلى (الرب) لتعظيمه، والرب هو المعلم والمربي والموجه والمرشد، فهو الذي يعلم أحاسن الأمور وأحكمها وكيف يعاقب من خالف أوامره وتوجيهه وإرشاده.
9- وأضافه إلى ضمير الخطاب، فهو ربك الذي رباك وأحسن إليك وعلمك وأرشدك فلا تجادله فهو أعلم منك.
والإنسان لا يحسن به أن يجادل من علمه ورباه في أمر هو من أمور التعليم والتوجيه وما هو من شؤون الرب.
10- وقال: {وَإِنَّهُمْ} فجاء بـ (إن) المؤكدة وأدخلها على ضميرهم وهم قوم لوط.
11- وقال: {آَتِيهِمْ عَذَابٌ} فجاء باسم الفاعل الدال على الثبوت.
وهذا التعبير أعني {وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} يحتمل دلالتين.
الأولى: أن (آتيهم) خبر مقدم، و(عذاب) فاعل اسم الفاعل، وجاء باسم الفاعل للدلالة على الثبوت، والجملة مؤكدة بـ (إن).
والدلالة الثانية: أن (آتيهم) خبر (إن)، و(عذاب) مبتدأ مؤخر، وقد قدم الخبر للاهتمام والقصر، أي ليس آتيهم إلا العذاب، كما تقول: (قائم أنا) أي لست إلا قائمًا، والجملة خبر (إن).
وقد تقول: ولِمَ لَمْ يقل: (وإنه آتيهم عذاب غير مردود) بإدخال (إن) على ضمير الشأن للدلالة على التفخيم والتعظيم، نظير قوله: {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ}
فنقول: لو قال ذلك لم يكسب المعنيين اللذين ذكرناهما، وذلك أنه لو قال: (وإنه أتيهم عذاب غير مردود) لم يكن له إلا دلالة واحدة وهي (آتيهم) خبر مقدم، و(عذاب) مبتدأ مؤخر، ولا يصح أن يكون (أتيهم) خبر (إن) لأن الشأن لا يدخل إلا على جملة فيفوت أحد المعنيين المرادين ضمير، والله أعلم.
۱۲- وقال: {غَيْرُ مَرْدُودٍ} فوصفه ونفى رده بالاسم الدال على الثبوت وهو (غير)، ولم يقل: (ليس مردودًا) فينفيه بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث، فنفاه بما هو أقوى وأثبت.
13- وقال: {غَيْرُ مَرْدُودٍ} فجاء باسم المفعول الدال على الثبوت، ولم يقل: (لا يرد) بالفعل.
فكانت كل كلمة نضا في المعنى المقصود والذي يناسب المقام.
نظرة بيانية في هذه القصـة
من الملاحظ أن جانب التبسط والإكرام لإبراهيم والملائكة في سورة هود أكثر مما في المواضع الأخرى.
1- فقد عجل بذكر البشرى له قبل ذكر إيجاس الخوف منهم، في حين كانت البشرى بعد التصريح بالخوف منهم كما في الحجر، أو بعد الإحساس بالخوف كما في الذاريات، فقال ههنا: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} وهذا أدعى إلى الاطمئنان.
٢- التصريح بأنهم رسله سبحانه أدل على التكريم من قوله: (ضيف إبراهيم)، فقد أضاف الرسل إليه فقال: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ}.
في حين قال في الحجر: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}، وفي الذاريات {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}.
ورسل الله أكرم من ضيف مكرم.
3- قال ههنا: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} لم يبطئ في المجيء.
وقال في الذاريات: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}.
وقوله: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ} أدل على السرعة من قوله: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ}.
فالأولى تدل على التعقيب في عدم الإبطاء في المجيء، أي أسرع فيه.
والثانية تدل على التعقيب في الروغان إلى أهله.
والأولى أسرع.
4- قال في هود: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أي سمين مشوي حار يقطر ودكه.
وقال في الذاريات: {بِعِجْلٍ سَمِينٍ} فزاد في الوصف في هود على سمين بأنه مشوي وأنه حار. ولا يدل في الذاريات على أنه حار.
5- إنكاره إياهم في هود بعد أن رأى أيديهم لا تمتد إلى الطعام {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ}.
في حين كان إنكاره في الذاريات بعد رد التحية: {قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}.
فقد كان بعد رد التحية في هود المجيء بالعجل، وكان بعد رد التحية في الذاريات قوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}.
6- بعد الإيجاس بالخوف في هود ذكروا له أمرين مطمئنين:
الأول: أنهم أرسلوا إلى قوم لوط وليسوا مرسلين إليه فلا داعي للخوف.
والآخر: التبشير بالولد.
في حين كان بعد التصريح بالوجل في الحجر أو الشعور بالخوف في الذاريات إنما هو التبشير بالغلام، ثم سألهم عن مهمتهم في الموضعين فأجابوه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط.
ولا شك أن الموقف الأول أدعى إلى الطمأنينة.
7- ذكر في هود أن امرأته ضحكت، وهي قد ضحكت سرورًا. ولم يذكر ذلك في موضع آخر.
٨- إنهم بشروها في هود بالولد وولد الولد.
ولم يبشروه بغير الولد في الحجر والذاريات، والأول أدعى إلى زيادة السرور.
9- إن فحوى البشارة في هود أن ترى ولدها وولد ولدها، أي أنها ستعيش حتى ترى يعقوب، وقد حصل لها ذلك، وهو ما يدل على طول العمر والزيادة في السرور.
10- تبسط امرأة إبراهيم مع الملائكة في هود أكثر، وهو أدل على الطمأنينة والراحة.
11- الدعاء أو الإخبار لأهل البيت بقولهم: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} أدل على الإكرام والزيادة في إدخال المسرة.
ولم يرد ذلك في موضع آخر.
۱۲- ورود البشرى في هود أكثر من ورودها في المواطن الأخرى، فقد جاءته الرسل بالبشرى، ثم بشروا امرأته، ثم ذكر مجيء البشرى مرة أخرى بقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى}.
ثم إن البشرى في هود وردت عامة ووردت مخصصة، فقد قال: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى}، وقال: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} والبشرى هنا عامة غير مخصصة بأمر.
ووردت مخصصة بقوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}.
في حين كانت البشرى في الحجر والذاريات مخصصة بالغلام. فما في هود أعم وأشمل.
13- أسند البشارة إليه في هود فقال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}، وأسند البشارة إلى الملائكة في الحجر والذاريات: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]، وفي الذاريات: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}[الذاريات: ۲۸].
ولاشك أن إسناد البشارة إلى الله أكرم وأتم.
ولما كانت البشارة مسندة إلى الله في هود ذكر الزيادة في البشرى وهي الولد وولد الولد.
١٤- إن البشرى في هود أتم وأعلى مما في الحجر والذاريات، فإن البشرى في هود جاءت بها الرسل كما قال: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى}.
وجاءت هي كما قال: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى}.
فالبشرى جيء بها مرة، وجاءت هي مرة أخرى.
وأما في الحجر والذاريات فقد ذكر أنهم بشروه، وكذلك قال في هود غير أنه أسند التبشير إليه سبحانه كما ذكرنا.
ولاشك أن ما ورد في هود أتم وأعلى.
15- ذكر ذهاب الروع وهو الفزع في هود فقال: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ}، ولم يقل مثل ذلك في الحجر ولا في الذاريات.
وهو أدل على الطمأنينة.
١٦- ذكر في هود مجادلة إبراهيم للملائكة في قوم لوط مما يدل على زيادة اطمئنانه. ولم يذكر ذلك في الحجر ولا في الذاريات.
۱۷- ذكر من صفات المدح والثناء على إبراهيم في هود ما لم يذكره في المواضع الأخرى، وذلك قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}.
فدل ذلك على ما ذكرناه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 281 إلى ص 288.
(1) روح المعاني 12/104.
(2) روح المعاني 12/104.
(3) انظر مفردات الراغب (جاء) و(أتى)، وانظر كتابنا (من أسرار البيان القرآني) باب المفردات.
قصة لوط
وردت هذه القصة في الأعراف وهود والحجر والأنبياء والشعراء والنمل والعنكبوت والصافات والذاريات والقمر.
ونقول ما قلناه في سائر القصص الأخرى إنها ليست متطابقة، بل قد يذكر في موضع ما لا يذكره في موضع آخر بحسب ما يريد أن يركز عليه وبحسب السياق الذي وردت فيه.
والملاحظ في هذه القصة أنه لم يذكر فيها أن لوطًا دعا قومه إلى عبادة الله وتوحيده في جميع ما ورد منها، وإنما ذكر أنه أمرهم بتقوى الله وذلك عندما راودوه عن ضيفه، وذكر ذلك أيضًا في سياق ما ورد نحوه على لسان الرسل الآخرين وذلك في سورة الشعراء، فكان الرسول يقول لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
ونحو ذلك قال لوط لقومه.
إن التركيز في قصة لوط إنما هو على ذكر الفاحشة التي ما سبقهم بها من أحد من العالمين، وهي إتيان الذكور شهوة من دون النساء. وكانت هي السبب الرئيس لعقوبتهم واستئصالهم. وذلك إشارة – والله أعلم – أن ربنا قد يهلك عباده بالمعصية إن عمت وعظمت كما قال ربنا في هؤلاء القوم: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [العنكبوت: 34].
وحذر الظالمين في كل حين أن يفعل بهم ما فعل بقوم لوط فقال في الحجارة التي أمطرها عليهم: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83].
1- ففي سورة الأعراف ذكر أن لوطًا أنكر على قومه سوء فعلهم في أنهم كانوا يأتون الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين (80).
فكان جواب قومه أنط طلبوا إخراجه من القرية فإنهم أناس يتطهرون.
فنجاه الله وأهله إلا امرأته، وذكر أنه أمطر عليهم مطرًا، ولم يذكر ما هذا المطر، وما ماهيته.
وهذا ما ورد منها في سورة الأعراف:
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 80 - 84].
2- وأما في سورة هود فذكر ورود رسل الله على لوط على هيئة ضيوف وضاق بهم نبي الله لوط، وجاءه قومه يهرعون إليه. وحاول لوط منعهم ودفعهم، وجرى بينه وبينهم كلام ومحاورة، وحاول منعهم بعرض بناته عليهم فأبوا، فأعلموه أنهم رسل به أرسلوا لعقوبة قومه، وطلبوا منه أن يسري بأهله. ثم ذكر عقوبتهم وذلك أنه جعل عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل.
وهذا الجانب من القصة لم يرد في الأعراف؛ وذلك لأنه كان أول تبليغ لهم فلا يناسب ذكر مجيء الرسل إليهم، وإنما تأتي الرسل بعد التبليغ ومضي الزمن وإصرار القوم على ما هم عليه، ثم بعد ذلك تأتي الرسل لعقوبة القوم.
فكان ذكر ذلك فيما بعد الأعراف هو المناسب.
3- وذكر في الحجر مجيء رسل ربه إليه فأنكرهم، فأخبروه بالغرض من مجيئهم وطلبوا منه أن يسري بأهله وأن يتبع أدبارهم.
كما ذكر مجيء أهل القرية مستبشرين فحاول منعهم، وعرض عليهم بناته. ثم ذكر عقوبتهم وهي الصيحة وأنه جعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
وهذا ما ورد منها في هذه السورة.
{فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}
4- وأما في الأنبياء فقد ذكر لوطًا بصورة موجزة، وذكر أنه آتاه حكمًا وعلمًا ونجّاه من القرية التي كانت تعمل الخبائث.
قال تعالى: {وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 74 – 75].
5- وأما في الشعراء فقد بدأت القصة بما تبدأ به عموم قصص رسل الله في السورة: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 160 – 164].
ثم بكتهم على معصيتهم وسوء فعلهم وهو إتيان الذكور وترك الأزواج، فهددوه إن لم ينته بإخراجه.
فدعا ربه أن ينجيه وأهله، فنجاه وأهله إلا عجوزًا في الغابرين، ولم يذكر أنها امرأته، وقد ذكر ذلك في مواضع أخرى.
ولم يذكر ضيفه. قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 160 – 175].
6- وفي سورة النمل ذكر أنه بكتهم على سوء فعلهم من اتيان الفاحشة، فكان جواب قومه أن طلبوا إخراجه من القرية، فأنجاه الله وأهله إلا امرأته وأمطر عليهم مطرًا ولم يذكر ما هذا المطر، قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِين} [النمل: 54 – 58].
7- وأما في سورة العنكبوت فقد ذكر من سوء أفعالهم ما لم يذكره في المواضع الأخرى.
فقد ذكر إضافة إلى إتيان الرجال من دون النساء أنهم يقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر.
وتحدوه بأن يأتيهم بعذاب الله إن كان من الصادقين.
ثم ذكر مجيء ضيف إبراهيم بالبشرى، فذهابهم إلى قوم لوط وبرمه بهم فأمنوه وذكروا له أنهم منجّوه وأهله إلا امرأته وأنهم منزلون على أهل القرية رجزًا من السماء، ولم يذكر نوع هذا الرجز.
قال تعالى:
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
8- ولم يذكر في الصافات إلا أن لوطًا من المرسلين، وأن الله نجّاه وأهله أجمعين إلا عجوزًا، ولم يذكر أنها امرأته، ثم ذكر أنه دمر الآخرين، ولم يذكر كيف كان تدميرهم.
ثم ذكر أنهم - أي قريشًا - يمرون عليهم في أسفارهم في الليل والنهار.
قال تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}ـ
9- وأما في الذاريات فقد ذكر أن إبراهيم سأل ضيفه عن مهمتهم فذكروا أنهم أرسلوا إلى قوم مجرمين ليرسلوا عليهم حجارة من طين معلمة بعلامة من عند ربه. ثم ذكر أنهم أخرجوا المؤمنين فلم يجدوا فيها غير بيت واحد . وهذا لم يذكر في موضع آخر.
ثم ذكر أنه ترك فيها آية بينة للذين يخافون العذاب الأليم، ولم يذكر ماذا فعل بهم غير ما ذكره الملائكة لإبراهيم.
قال تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الذاريات: 31 - 37].
10- وأما في سورة القمر فقد ذكر تكذيب قوم لوط بالنذر، وهو ابتداء عموم القصص في هذه السورة.
ثم ذكر أنه أرسل عليهم حاصبا ولم يذكر ذلك في موضع آخر.
وذكر أيضًا أنهم راودوه عن ضيفه وأنه طمس أعينهم، ولم يذكر في موضع آخر أنه طمس أعينهم.
ثم ذكر أنهم صبحهم العذاب ولم يذكر نوع ذلك العذاب.
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
موقف قومه منه:
ذكر في الأعراف أنهم طلبوا إخراجه من القرية.
وأما في هود فقد ذكر موقفهم من ضيفه. وذكر أنهم جاؤوا يهرعون إليه، أي يشتدون في الإسراع إليه، فحاول دفعهم فلم يقو على ذلك.
وفي الحجـر ذكـر أيضًـا مـوقفهـم مـن ضيفـه وذكـر أنهـم جـاؤوا يستبشرون، وهو وصف لم يذكره في هود. فقد قال هود إنهم جاؤوا مسرعين، وذكر في الحجر أنهم جاؤوا مستبشرين وهو وصف آخر غير الإسراع.
وفي الشعراء ذكر أنهم هددوه بإخراجه من القرية إن لم يكف عنهم. وفي النمل طلبوا إخراجه.
وفي العنكبوت تحدوه بأن يأتيهم بعذاب الله إن كان صادقًا.
وأما في القمر فقد ذكر أن قومه كذبوا بالنذر، وأنه أنذرهم بطشة ربهم فكذبوا بها، وأنهم راودوه عن ضيفه فطمس الله أعينهم.
ويتضح من هذا أنهم هددوه أو طلبوا إخراجه من القرية في الأعراف والشعراء والنمل.
وذكر أنهم راودوه عن ضيفه في هود والحجر.
وذكر في العنكبوت أنه جاءته رسل ربه وأنه ضاق بهم ذرعًا. ولم يذكر موقف قومه منه. ولم يذكر موقف مواجهة بينه وبين قومه في المواضع الأخرى.
عاقبة القوم:
1- ذكر في الأعراف أنه نجاه وأهله إلا امرأته، وأنه أمطر عليهم مطرًا ولم يذكر ما هذا المطر.
٢- في هود ذكر أنه جعل عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود، وهذه الحجارة معلمة بعلامة خاصة.
3- وذكر في الحجر أنهم أخذتهم الصيحة مشرقين، أي بعد شروق الشمس، ولم يذكر الصيحة ولا هذا التوقيت في موضع آخر.
كما ذكر أنه جعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
فقد ذكر في هود أنه أمطر عليها يعني القرية.
وقال في الحجر أنه أمطر عليهم يعني القوم.
فدل ذلك أنه أمطر على القوم وعلى القرية. وقد ذكرنا في كتابنا (من أسرار البيان القرآني) في باب (الذكر والحذف) سبب المغايرة بين التعبيرين.
4- ذكر في الشعراء أنه دمر غير المؤمنين وأمطر عليهم مطرًا، ولم يذكر ما حقيقة هذا المطر ولا فصل فيه.
5- وقال في النمل: إنه أمطر عليهم مطرًا، وهو نحو ما ذكر في الشعراء.
6- وقال في العنكبوت: إن الرسل وعدوه بإنزال رجز من السماء، وهو تعبير لم يذكر في المواضع الأخرى.
7- وفي الصافات ذكر تدمير قومه، غير أنه لم يذكر كيف كان تدميرهم.
٨- وفي الذاريات ذكر الرسل لإبراهيم أنهم مرسلون إلى قوم لوط لإنزال حجارة من طين عليهم، مسوّمة أي معلمة بعلامة خاصة.
فذكر أن الحجارة من طين.
9- وذكر في سورة القمر أنه أرسل عليهم حاصبًا، وأنه صبحهم بكرة عذاب مستقر، أي في أول النهار.
ومن هذا يتضح أنه ذكر المطر على العموم في الأعراف والشعراء والنمل.
وذكر الإمطار بالحجارة في هود والحجر والذاريات.
وذكر إنزال الرجز في العنكبوت.
وذكر إرسال الحاصب في القمر.
ومن الملاحظ أنه ذكر إمطار المطر بعد تبكيت قومه على فعل الفاحشة.
وذكر الإمطار بالحجارة وجعل عاليها سافلها عند مجيء أهل القرية مسرعين عندما علموا بمجيء الضيوف ومحاولة دفعهم ببناته. وهو أشد من الموقف الأول؛ لأن ذلك كان تبكيتًا على فعل قد لا يكون موجودًا في أثناء دعوته لهم.
وأما الموقف الآخر فهو المجيء لتنفيذ هذا الفعل السيء والإصرار عليه ومحاولة دفعهم ببناته، فرفضوا. وهذا قلب للفطرة التي خلق الله الناس عليها، فقلب الله عليهم الأرض كما قلبوا الفطرة. فاشتد عليهم العذاب لما كان الموقف أشد.
ولما لم يكن في الذاريات مراودة ولا مجيء الضيوف إلى لوط لم يذكر قلب عاليها سافلها.
وذكر إنزال الرجز في العنكبوت لما ذكر من معاصيهم ما هو أكثر مما ذكر فيه إنزال المطر.
والرجز أشد من المطر لأن الرجز هو العذاب. وأما المطر فقد لا يكون عذابًا في أصل التعبير في اللغة.
وأما في القمر فإنه ذكر الحاصب مناسبة لما ذكر من طمس أعينهم؛ لأنه كأنه حصبهم فسقط من ذلك في أعينهم فطمسها، وإن كان المقصود بذكر الحاصب هو ما ذكر من العذاب، غير أن ذكره كان مناسبًا لطمس أعينهم. والله أعلم.
نجاة المؤمنين
ذكر في الأعراف والنمل والعنكبوت نجاته وأهله إلا امرأته.
وأما في هود فقد طلب منه الإسراء بأهله إلا امرأته، ولم يصرح بنجاته ومن معه.
وكذلك في الحجر فإنه طلب منه الإسراء بأهله وأن يتبع أدبارهم ولم يذكروا امرأته، لأنهم ذكروا في القصة نفسها لنبي الله إبراهيم أنهم منجون آل لوط إلا امرأته، فلم يعيدوا ذكرها مرة أخرى.
وفي سورة الأنبياء ذكر أنه نجاه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ولم يذكر أهله معه.
وفي الشعراء والصافات ذكر أنه نجاه وأهله إلا عجوزًا في الغابرين، ولم يذكر أنها امرأته، وقد مر بيان هذه العجوز في مواضع أخرى.
وذكر في الذاريات أنه لم يجدوا في القرية غير بيت واحد من المسلمين. ومعنى ذلك أنه لم يؤمن له إلا آل بيته عدا امرأته.
وقد ذكر ذلك أيضًا في سورة القمر بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34] فقد استثنى آل لوط وهم أهله.
ومن الملاحظ أنه لم يذكر ناجيًا معه غير أهله في جميع المواضع، مما يدل على أنه لم يؤمن له من القرية أحد غير أهل بيته إلا امرأته.
قد تقول لقد قال في أكثر من موضع: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} وذلك في هود والحجر، فذكر القطع من الليل.
وقال في موضع آخر: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} فذكر الصبح وليس الليل.
وقال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ}.
وقال في القمر: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}.
وقال: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} أي عند الصباح.
فما حقيقة الأمر أهي النجاة في الليل أم في الصبح؟
فنقول: إن النجاة كانت في الليل، فقد طلب منه الإسراء في ذلك الوقت.
وأما نزول العذاب فهو عند الصبح، ذلك أن النجاة لم تكن في وقت نزول العذاب بل قبله.
ومن الملاحظ أنه ذكر دعاءه بالنجاة في الشعراء وذلك قوله: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُون}، ودعاءه بالنصر في العنكبوت وذلك قوله: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}.
وكل مناسب لموضعه، ففي الشعراء بعد أن بكتهم على إتيان الذكران وترك الأزواج هددوه إن لم ينته بإخراجه من القرية فقال لهم: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} فلما ذكر قلاه وبغضه لعملهم دعا ربه أن ينجيه وأهله من عملهم.
وأما في العنكبوت فقد ذكر إضافة لعملهم الفاحشة أنهم يقطعون السبيل، وهو عدوان على عباد الله، فدعا بالنصر عليهم وليس مجرد نجاته منهم. فإن نجاته منهم لا تمنعهم من ذلك، وإنما النصر عليهم هو الذي يمنعهم فدعا بالنصر عليهم. وكل مناسب لموضعه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 289 إلى ص 300.