عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴿٦٩﴾ ﴾ [هود آية:٦٩]
جانب من التفسير البياني
{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69]
لقد غير الأسلوب الذي اتبعه في قصص الأنبياء الآخرين في هذه السورة كقصة نوح وهود وصالح وغيرهم، فقد قال في ابتداء تلك القصص: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}.
في حين قال ههنا: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى}.
ذلك أن الغرض والهدف مختلف عن تلك القصص، فإن قصص بقية الرسل إنما هي في إرسالهم إلى أقوامهم وتبليغهم دعوة ربهم وإنذارهم وذكر عاقبتهم، وليس الأمر كذلك في قصة إبراهيم هذه، وإنما الغرض إنما هو ذكر المجيء بالبشرى وأن تكون القصة مدخلاً إلى قصة لوط. فهي محطة في الطريق إلى قوم لوط.
جاء في (روح المعاني): {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ}: وإنما أسند إليهم المجيء دون الإرسال لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط لقوله تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} وإنما جاؤوه لداعية البشري.
قيل: ولما كان المقصود في السورة الكريمة ذكر صنيع الأمم السالفة مع الرسل المرسلة إليهم، ولحوق العذاب بهم، ولم يكن جميع قوم إبراهيم عليه السلام من لحق بهم العذاب، بل إنما لحق بقوم لوط منهم خاصة غير الأسلوب المطرد فيما سبق من قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} ثم رجع إليه حيث قيل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}" (1).
وجاء في (البحر المحيط): "تقدم أن ترتيب قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف، وإنما أدرج شيئًا من أخبار إبراهيم عليه السلام قصة صالح ولوط لأن له مدخلًا في قصة لوط، وكان إبراهيم ابن خالة لوط، والرسل هنا الملائكة بشرت إبراهيم بثلاث بشائر: بالولد وبالخلة وبإنجاء لوط ومن آمن معه" (2).
وقوله: (بالبشرى) قيل: هي البشرى بالولد (3)، وقيل: بأمور أخرى منها ما ذكره صاحب البحر المحيط.
{قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} ذكرنا هذا التعبير في أكثر من موضع، وقد قلنا: إن تحية الملائكة كانت بالجملة الفعلية، أي نسلم سلامًا، بدليل نصب السلام، وإن تحية إبراهيم بالجملة الاسمية بدليل رفع السلام، أي سلام عليكم. والجملة الاسمية أقوى وأثبت من الفعلية، فهو رد التحية بخير منها.
{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}
{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ} أي فما أبطأ في المجيء أو عن المجيء، والفاعل ضمير مستتر يعود على إبراهيم، والمصدر المؤول منصوب بنزع الخافض وهو على تقدير (في) أو (عن).
ويحتمل أن يكون المصدر المؤول فاعلاً، أي فما تأخر مجيئه (4).
جاء في (الكشاف): {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ} فما لبث في المجيء به، بل عجل فيه، أو فما لبث مجيئه" (5).
ولم يذكر حرف الجر، فلم يقل: (فما لبث في أن جاء) أو (عن أن جاء) وذلك ليتسع المعنى ويشمل أكثر من دلالة.
فالتعبير يحتمل عدة معان كلها مرادة والله أعلم. فهو يحتمل أن يكون المعنى: فما لبث مجيئه، أي ما أبطأ مجيئه.
ويحتمل أن يكون ما أبطأ إبراهيم في المجيء، ولا أبطأ عن المجيء.
{بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }العجل: ولد البقرة.
والحنيذ: السمين المشوي الذي يقطر دسمه.
والحنيذ هو المشوي بالرضف وهي الحجارة في أخدود (6).
جاء في (البحر المحيط): "حنذت الشاة أحنذها حنذًا: شويتها، وجعلت فوقها حجارة لتنضجها فهي حنيذ" (7).
وجاء في (لسان العرب): "الحنيذ من الشواء الحار الذي يقطر ماؤه وقد شوي" (8).
والمعنى أنه جاء بعجل مشوي حار سمين يقطر ودكه.
ففي الحنيذ ثلاث صفات:
1- أنه سمين.
٢- ومشوي.
3- وحار يسيل دسمه ويقطر ماؤه، وهذا غاية الإكرام، فإنه عجل في تقديم أحسن الطعام لضيفه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 265 إلى ص 274.
(1) روح المعاني 12/93.
(2) البحر المحيط 5/241.
(3) انظر الكشاف 2/105.
(4) انظر روح المعاني 12/94.
(5) الكشاف 2/106.
(6) انظر الكشاف 2/106، روح المعاني 12/94.
(7) البحر المحيط 5/236.
(8) لسان العرب (حنذ).