عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴿٦٦﴾    [هود   آية:٦٦]
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود: 66] قال ههنا: {نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}. فذكر أنه نجاهم برحمة منه ولم يقل مثل ذلك في موضعين آخرين، فقد قال في سورة النمل: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 53]، وقال في فصلت: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت: 18] ولم يقل: (برحمة منا). وذلك - والله أعلم - أنه ذكر صفتين في سورتي النمل وفصلت وهما: الإيمان والتقوى فقد قال فيهما: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}. ولم يذكر في سورة هود غير صفة واحدة وهي الإيمان، فاتسعت رحمته لتشمل من كان مؤمنًا وإن لم يكن متقيًا، فناسب ذكر الرحمة في هذا الموضع، وإن كانت النجاة برحمته سبحانه وليست بشيء آخر. {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي نجيناهم من العذاب ومن الخزي، فقد عطف قوله: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} على (نجينا)، والتقدير: "ونجيناهم من خزي يومئذ" (۱). فدل ذلك أنه أصاب الذين ظلموا العذاب والخزي، ونجى الله الذين آمنوا منهما. وقد ذكرنا الفرق بين (نجينا) و(أنجينا) في كتابنا (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) (۲) فلا نكرر القول فيه. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} "ناسب مجيء الأمر وصفه تعالى بالقوي العزيز، فإنهما من صفات الغلبة والقهر والانتقام" (۳). وقال: {إِنَّ رَبَّكَ} بإضافة الرب إلى ضمير المخاطب وهو رسول الله محمد  تحذيرًا لقريش من مغبة موقفهم من رسول الله، فإن ربك يفعل بهم ما فعل بالأقوام البائدة الذين أهلكهم الله كما قال محذرًا لهم: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]. وعرف الخبر وجاء بضمير الفصل فقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} ولم يقل: (إن ربك قوي عزيز) ليدل على أنه لا قوي غيره على الحقيقة، ولا عزيز غيره على الحقيقة، بل هو وحده القوي العزيز. قد تقول: لقد قال ههنا: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} وقال في الشورى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19]. فأكد في آية هود قوته وعزته بـ (إنّ) ولم يؤكد ذلك في الشورى. فلم ذاك؟ والجواب: أنه أكد في آية هود لأن المقام مقام عقوبة وإنجاء صالح ومن آمن معه وذلك يستدعي تأكيد القوة والعزة. وأما السياق في الشورى فإنه في لطفه بعباده فلا يستدعي ذلك تأكيدهما. وقدم القوي على العزيز لأنه قوي فعز، فإن العزة إنما تكون من القوة، ولذلك حيث اجتمع هذان الوصفان في القرآن الكريم قدم القوي على العزيز، وذلك نحو قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40، 74]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25، المجادلة: 21]. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 260 إلى ص 262. (1) الكشاف 2/105. (2) بلاغة الكلمة في التعبير القرآني ص 76 وما بعدها. (3) البحر المحيط 5/240.