عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴿٦٣﴾    [هود   آية:٦٣]
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63] بعد أن قالوا لنبيهم إنهم في شك مما يدعوهم إليه ناقشهم نبيهم بأمرين: أمر عقلي منطقي، وأمر قائم على الحجة الملزمة. فأما الأمر العقلي المنطقي فإنه قال لهم: أخبروني لو أن الله كان أرسلني حقًا ولست مدعيًا فمن يعصمني من الله وينجيني منه إن عصيته؟ جاء في (الكشاف): "قدروا أني على بينة من ربي وأني الحقيقة وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي فمن يمنعني من عذاب الله" (۱). وذكرنا في موضع سابق من هذه السورة سبب تقديم الجار والمجرور (منه) على (رحمة)، في حين أخره عن الرحمة في قوله: {وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} [هود: 28]. وقد ذكرنا في ذلك الموضع أنه لما كان الكلام على الرحمة قدمها وذلك قوله: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}. ولما كان الكلام على الله في هذه الآية وذلك قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} قدم الضمير العائد على الله في الجار والمجرور وهو (منه) على الرحمة. {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} التخسير مصدر (خسر) بالتضعيف، وهو يفيد المبالغة والتكثير في الخسار، أي لا تزيدونني إلا مبالغة في الخسران. لقد دل هذا التعبير على الزيادة في الخسران من أكثر من وجه: منها قوله: {تَزِيدُونَنِي} أي تضيفون خسارة إلى خسراني. ومنها: أنه جاء بالمصدر الدال على الكثرة وهو (تخسير). ومنها: أنه جاء بالنفي مع (غير) ليدل على أنه لا يزيدونه شيئًا غير الزيادة في الخسران. ولو قال بدل هذه العبارة: (كنت خاسرًا) مثلاً لم يفد ذلك إلا أنه سيكون خاسرًا. ومن الملاحظ أنه إذا استعمل القرآن الزيادة في الخسارة استعمل لفظ (الخسار) فقال: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال: {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر: 39]، وقال: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نوح: 21]. إلا في هذه الآية فإنه قال: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} فجاء باللفظ الدال على المبالغة والكثرة، وذلك أنه إذا كان نبيًا حقًا وآتاه الله منه رحمة ثم عصاه كانت خسارته أعظم من سائر الكفار الذين لم تأتهم البينة ولم ينزل عليهم وحي، فناسب ذكر التخسير هنا مجرد الخسار، بخلاف سائر المواضع الأخرى، وليس عقاب من علم وعصى كمن جهل. وقد قيل فيما قيل: وعــالـمٌ بعلمِـهِ لـمْ يعملَـنْ مُعـذّبٌ مـن قبـل عُبَّـادِ الـوثـنْ ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 256 إلى ص 258. (1) الكشاف 2/105.