عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ﴿٦١﴾ ﴾ [هود آية:٦١]
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61].
فهي مرحلة لاحقة بعد التبليغ الأول.
وأما في سورة الحجر فقد ذكر تكذيبهم، ولم يذكر مواجهة بينه وبين قومه، وإنما هو إخبار عن هؤلاء القوم.
وأما في الشعراء فإنه طلب منهم أمرًا آخر، فقد قال لهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وهو ما طلبه الرسل من أقوامهم.
(انظـر الشعـراء 110 ، ١٢٦ ، ۱۳۱ ، 144 ، 163 ، ۱۷۹) ثم ذكرهم بالنعم، ولم يعد عليهم الأمر بعبادة الله وتوحيده.
وأما في النمل فقد قال: إنه أرسل صالحًا إلى ثمود بعبادة الله فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النمل: 45].
فاختصم الفريقان في هذا الأمر، فدعاهم إلى الاستغفار وحضهم على ذلك لعل الله يرحمهم، فقال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46].
وأما في سورة فصلت فإنه لم يذكر دعوة ولا مواجهة، بل هو إخبار عن غائب.
ونحو ذلك في الذاريات، فإنه لم يرد فيها إلا تحذيرهم من عاقبة ما هم فيه، إذ قيل لهم: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات : 43].
وفي سورة القمر ذكر تكذيبهم بالنذر ولم يذكر دعوة ولا مواجهة.
ولم يذكر في الفجر سوى أنهم جابوا الصخر بالواد.
وأما في سورة الشمس فقد ذكر تكذيبهم بسبب طغيانهم، ولم يذكر دعوة لهم ولا مواجهة، وإنما طلب أن يتركوا ناقة الله وسقياها.
تذكيرهم بالنعم:
وكذلك التذكير بالنعم لم يكن على نمط واحد:
1- ففي سورة الأعراف بعد أن ذكرهم بأنه جعلهم خلفاء من بعد عاد وفي هذا تحذير لهم أن يسلكوا سبيلهم ذكرهم بنعم الله بأن بوأهم في الأرض، أي مكنهم منها وهيأها لهم يتخذون من سهولها قصورًا وينحتون الجبال بيوتًا. ثم طلب منهم أن يذكروا نعم الله عليهم على العموم فقال لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74].
٢- وأما في هود فقد ذكر أنه أنشأهم من الأرض وجعلهم عمارًا لها {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}.
وهذه النعم المذكورة في هود تختلف عما في الأعراف، فقد توسع ذكر النعم في الأعراف وأجملها في هود.
3- وأما في الحجر فقد ذكر أنهم: كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين، فذكر الأمن زيادة على اتخاذ البيوت. وهذه هي المرة الأولى التي يذكر فيها الأمن.
ومن الملاحظ أنه قال هنا: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ} بذكر (من)، في حين قال في الأعراف: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} فلم يذكر (من)، وذلك أنه توسع في ذكر النعم في الأعراف، وذكر ما لم يذكره في الحجر، فقال: إنه بوأهم في الأرض، أي مكن لهم فيها وهيأ لهم فيها مكانًا، وأنهم يتخذون من سهولها قصورًا وينحتون الجبال بيوتًا، فقال: إنهم يتخذون من سهولها قصورًا ولم يقل: (يتخذون في سهولها قصورًا) أي تجعلون من سهولها قصورًا، وهذا توسع في الإعمار. بخلاف ما لو قال: (تتخذون في سهولها قصورا) أي تجعلون في السهول قصورًا، وهذا يمكن أن يقال في بضعة قصور، بخلاف قولك: (اتخذت من السهول قصورًا) أي جعلت السهول قصورًا. ألا ترى فرقا بين قولك : (اتخذت في الأرض دارًا) و(اتخذت من الأرض دارًا) فالتعبير الأول قد يفيد أنك بنيت في الأرض دارًا ولا يفيد أنك جعلتها كلها دارًا ، بخلاف قولك: (اتخذت من الأرض دارًا) أي جعلتها داراً كلها.
ثم قال: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} أي كأن الجبال كلها ينحتونها بيوتًا، وهذا توسع في العمران، وهو أوسع من قوله: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ} بـ (من) التي قد تفيد التبعيض.
ولذا ذكرهم بآلاء الله عليهم الأعراف فقال {فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ}.
فإنه توسع في ذكر عمارة الأرض في الأعراف ما لم يتوسع في الحجر، غير أنه زاد الأمن في الحجر.
4- وأما في الشعراء فقد ذكر نعمًا أخرى عددها عليهم، فقد ذكر الأمن وذكر الجنات وعيون الماء والزروع والتوسع والفراهة في السكن فقال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 146 – 149].
فقد ذكر الأمن في المكان، والسعة في الطعام والشراب، والفراهة في السكن، وهو ما لم يذكر فيما سبق من النعم.
ولم يذكر في السور بعد ذلك نعمًا عددها عليهم سوى أنه قال في الفجر: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي قطعوه ونحتوه.
فأنت ترى أنه لم يكرر ذكر النعم أو يذكرها في موضع واحد.
البينة على صدقه:
ذكر الآية الدالة على صدقه وهي الناقة التي أخرجها الله من الصخرة "وكانوا هم الذين سألوا صالحًا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم ... فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقلة عشراء تمخض، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن بها وليتبعنه. فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم قام صالح عليه السلام إلى صلاته ودعا الله عز وجل فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا ... فأقامت الناقة وفصيلها بعدما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يومًا وتدعه لهم يومًا. وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملؤون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم" (5).
1- فقد ذكرها في الأعراف وسماها بينة وآية فقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً} [الأعراف: 73] وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ولا يمسوها بسوء وإلا أخذهم عذاب أليم.
ولم يسمها بينة في غير هذا الموضع.
وقد أخبرهم عن مجيء هذه الآية ابتداء ولم يذكر أنهم طلبوا منه أن يأتي بآية دالة على صدقه.
2- وأما في هود فقد سماها آية، ولم يذكر أنهم طلبوا منه أن يأتيهم بذاك، وإنما قال لهم: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً}. وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ولا يمسوها بسوء وإلا أخذهم عذاب قريب.
. 3- وأما في الحجر فقد ذكر عن أصحاب الحجر أنهم كذبوا المرسلين. وقال: {وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا} [الحجر: 81] فذكر آيات ولم يقل آية. ولم يذكر هذه الآيات مع أنه ذكر في بقية السور أنها آية.
وليس في ذلك تعارض فإن الناقة آية وفيها آيات:
منها أنها خرجت من صخرة من غير أن تلدها أنثى، وأنها كانت تدر باللبن الذي يسقي القوم كلهم في يوم واحد، وأنها تشرب ماء البئر كله وهو يسقي القوم وإبلهم ومواشيهم.
4- وأما في سورة الشعراء فقد ذكر أنهم طلبوا منه أن يأتيهم بآية إن كان من الصادقين (١٥٤).
وهذا هو الموطن الوحيد الذي ذكر فيه أنهم طلبوا منه آية فقال لهم: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155].
وطلب منهم أن لا يمسوها بسوء وإلا أخذهم عذاب يوم عظيم (156).
وهذا أول موضع ذكر فيه الشرب، وكان قد ذكر في مواضع سابقة الأكل.
كما أن هذا هو الموضع الوحيد الذي أضاف فيه العذاب إلى اليوم ووصفه بالعظم فقال: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156].
ففي سورة الشعراء ذكر أمورا لم يذكرها في بقية السور، أو بدأ بذكرها قبل ما بعدها من السور.
منها: أنهم طلبوا منه آية. ولم يذكر ذلك في المواضع الأخرى. وأنه ذكر شرب الناقة، في حين أنه ذكر في السور السابقة الأكل.
وأنه أضاف العذاب إلى اليوم ووصفه بالعظم، في حين أنه كان يصف العـذاب فـي المـواضـع الأخـرى فيقول: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] أو {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64].
5- ولم يذكر آية أو ناقة في سورة النمل ولا فصلت ولا الذاريات.
6- ذكر في سورة القمر إرسال الناقة فتنة لهم، ولم يذكر أن تلك آية، ولا أنهم طلبوا منه آية، وإنما كان ذلك من باب التوعد لهم فقال: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر: 27].
وذكر الشرب ولم يذكر الأكل فقال: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28].
7- لم يذكر شيئًا من ذلك في سورة الفجر.
٨- في سورة الشمس ذكر أن رسول الله طلب منهم أن يتركوا ناقة الله وسقياها، أي شربها.
ولم يذكر أن تلك آية ولا أنهم طلبوا منه آية.
الموقف:
1- كان أشد المواقف المذكورة من الدعوة إنما هو ما ورد في الأعراف، فقد دار جدال بين المستكبرين من قومه والذين استضعفوا من المؤمنين، فقد {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 75 - 76].
ولم يرد حوار أو جدال بين صالح وقومه سوى أنهم تحدوا صالحًا بعدما عقروا الناقة قائلين له: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77].
٢- وأما في هود فقد كان الحوار بين صالح وقومه، فقد قالوا له: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 62 - 64].
فعقروها فأمهلهم ثلاثة أيام يقع بعدها العذاب عليهم، توعدهم به . فوقع ما توعدهم به.
وهذا الموقف أخف مما في الأعراف، فقد قالوا في الأعراف: {إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
وههنا قالوا: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فذكروا أنهم في شك.
3- لم يذكر مواجهة بينه وبين قومه في الحجر، إلا أنه أخبر عنهم ربنا أنهم كذبوا المرسلين ولم يذكر مرسلاً بعينه، وقال إنهم أعرضوا عن الآيات.
4- في الشعراء ذكر حوارًا بين صالح وقومه، وقد عدد عليهم النعم فقالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أي من الذين سحروا كثيرا حتى أثر على عقله.
وقالوا له أيضًا: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154].
ولم يرد مثل هذا الحوار في موطن آخر.
5- في النمل ذكر أنهم تطيروا به بعد نصح نبيهم لهم قائلاً: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46].
فقالوا له: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ}.
فرد عليهم قائلاً: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}.
ولم يزد الكلام بينهما على هذا.
ثم ذكر ما حاكوا له من مؤامرة لقتله وأهله.
وهذا إنما كان بعد مدة من التبليغ والأخذ والرد ذكرت في المواطن السابقة التي وردت فيها القصة.
ولا يناسب أن يكون هذا في أول الدعوة.
6-لم يذكر في سورة فصلت شيئا بين صالح وقومه، وإنما ذكر شيئا عـن حـالـهـم فقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
7- وكذلك في الذاريات فإنه قيل لهم: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات: 43].
وذكر أنهم عتوا عن أمر ربهم.
٨- في القمر ذكر أن ثمود كذبوا بالنذر، ولم يذكر مواجهة بينهم وبين نبيهم، وإنما قال بعضهم لبعض: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24].
واتهموه بأنه كذاب أشر {أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 25].
ولم يرد مثل هذه الأقوال في نبيهم في أي موضع آخر. غير أنه لم تذكر هذه الأقوال في مواجهته وإنما ذكرت في غيبته.
وذكر في هذه السورة أنهم نادوا صاحبهم ليعقر الناقة فتعاطى السيف فعقرها، فذكر أن العاقر واحد، غير أنهم لما نادوه ليفعل ذلك كانوا مشتركين في الجريمة فعوقبوا جميعًا.
هذا هو الموطن الوحيد الذي ذكر فيه أنهم نادوا صاحبهم ليعقرها، فقد أسند العقر إلى واحد، في حين أنه في المواطن الأخرى أسند العقر إلى الجميع قائلاً: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} أو {فَعَقَرُوهَا}.
9- ولم يرد في سورة الفجر شيء عن موقفهم من رسولهم.
10- وأما في سورة الشمس فقد ذكر أنهم كذبوا بطغيانهم، وأنه انبعث أشقاها، وأن نبيهم طلب منهم أن يتركوا الناقة وسقياها، فكذبوه فعقروها.
الخاتمة
1- ذكر في سورة الأعراف أنهم أصابتهم الرجفة وهي الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
٢- وقال في سورة هود إنهم أصابتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وهي صيحة من السماء.
وجمع الديار في الصيحة وأفردها في الرجفة؛ لأن الصيحة يبلغ مداها أبعد من مدى الرجفة، ولذا حيث ذكر الصيحة فقال: (الديار). وحيث ذكر (الرجفة) أفرد الدار (6).
3- وذكر في الحجر أنهم أخذتهم الصيحة.
4- ولم يذكر في الشعراء لا رجفة ولا صيحة وإنما ذكر العذاب وهو مطلق فقال: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء: 158].
5- وأما في النمل فلم يذكر شيئًا من ذلك وإنما ذكر التدمير على العموم فقال: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51].
6- وقال في فصلت إنهم أخذتهم صاعقة العذاب الهون (17).
7- وقال في الذاريات إنهم أخذتهم الصاعقة من دون إضافة إلى العذاب أو إلى غيره (45).
8- وقال في القمر إنه أرسل عليهم صيحة واحدة فذكر أنها واحدة.
9- وأما في الفجر فقد جمعهم مع عدة أقوام فقال فيهم جميعًا: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13].
10- وأما في سورة الشمس فلم يذكر شيئًا من ذلك وإنما قال: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] أي أطبق عليهم العذاب مكررًا، وإنه لم ينج منهم أحد فكانوا في العذاب سواء.
فذكر الرجفة مرة واحدة وذلك في سورة الأعراف.
وذكر الصيحة ثلاث مرات: مرة في سورة هود، ومرة في الحجر، ومرة في القمر.
وذكر الصاعقة مرتين: مرة في فصلت، ومرة في الذاريات.
ولا تناقض في ذلك أو اختلاف، فإن الرجفة في الأرض والصيحة من السماء ومعها الصاعقة.
جاء في (روح المعاني): "الصيحة أي صيحة جبريل أو صيحة من السماء فيها كل صاعقة وصوت مفزع ... فأخذتهم الرجفة ... ولعلها وقعت عقيب الصيحة" (7).
وأشدهن الرجفة لأنها زلزلة وهي تباشرهم أجمعين وتباشر مساكنهم.
وذكرها لأنه ذكر استكبارهم ولأنهم عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وتحدوا نبيهم، قال تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77].
وتليها الصيحة؛ لأن الصيحة قد لا يسمعها الأصم أو من وضع سدادًا
في أذنيه، بخلاف الرجفة التي تعم الجميع.
وذكر الصيحة ههنا لأن موقفهم أخف، ذلك أنه لم يذكر في هود غير في العقر.
ففي الأعراف ذكر العقر والعتو عن أمر ربهم والتحدي، وليس في هود أو غيرها نحو ذلك.
ولم يذكر في الحجر غير الإعراض عن الآيات.
أما في القمر فلم يذكر غير العقر.
ثم تليها الصاعقة؛ لأن الصاعقة قد تحل في مكان دون آخر وإن كانت عمتهم أجمعين. وذلك أنه لم يقل في فصلت إلا إنه هداهم فاستحبوا العمى على الهدى. ولم يذكر عقر الناقة.
وفي الذاريات قال: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الذاريات: 44] ولم يذكر عقرًا أو غيره.
فذكر في كل موضع جانبًا من العقوبة يناسبه.
النجاة:
1- لم يذكر في الأعراف نجاة وإنما قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} وهو المناسب لذكر الرجفة التي تعم الجمع.
والسياق يدل على نجاة الذين آمنوا كما هو بين.
٢- ذكر في هود أنه نجى صالحًا والذين آمنوا معه.
3- لم يذكر نجاة في الحجر ولا في الشعراء.
4- ذكر في النمل وفصلت أنه نجى الذين آمنوا وكانوا يتقون.
ولم يذكر نجاة في غير ذلك من المواضع.
ومن الملاحظ أنه لم يذكر أن رسولهم دعا بطلب النجاة لا له ولا لمن آمن معه. كما أنه لم يدع على قومه.
ولم يرد لأهله ذكر ولا موقفهم من الدعوة، وذلك نظير ما مر في قصة هود.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 233 إلى ص 254.
(1) انظر البحر المحيط 5/463، الكشاف 2/194.
(2) انظر الأسراء 101، النمل 12.
(3) انظر تفسير الرازي 7/157.
(4) انظر البحر المحيط 8/482.
(5) تفسير ابن كثير 2/228.
(6) انظر التعبير القرآني 57، البرهان للكرماني 184، 239.
(7) روح المعاني 12/92.
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}
أي أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا، فالآية معطوفة على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}
{أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}
أي جعلكم تعمرونها وتسكنون فيها، وقدم الإنشاء من الأرض على إعمارها لأنه أسبق، فإن الإنشاء قبل عمارتهم للأرض.
{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} هو نظير ما قاله من سبقه لمن سبقهم، فقد قال ذلك هود لقومه عاد (الآية 52).
وقالها خاتم الرسل لقومه كما سبق ذكر ذلك في الآية الثالثة من السورة.
وسبق أن ذكرنا ثم تقديم الاستغفار على التوبة وسبب ذلك فلا نعيد القول فيه.
{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}
أي قريب يسمع استغفاركم ويجيبكم فيتوب عليكم ويجيب دعاءكم.
وقدم (قريب) على (مجيب) لأن الإجابة تستدعي السماع، والقريب أدعى إلى السمع من البعيد. فقدم القريب لأنه يسمعك فيجيبك. ونحو هذا قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] فقدم القرب على الإجابة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 254 إلى ص 255.