عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴿٦٠﴾    [هود   آية:٦٠]
{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] اللعنة: هي الطرد من رحمة الله. أي إن اللعنة أرسلت عليهم فهي تطاردهم وتتبعهم حيثما يكونون في هذه الدنيا ويوم القيامة، فهي تلازمهم لا ترجى لهم رحمة لا في الدنيا ولا في الآخرة. وهذه مبالغة في الطرد من رحمة الله، فكما أنهم بالغوا في عنادهم ومعصيتهم وبالغوا في اتباع كل جبار عنيد بولغ لهم في هذا العقاب الأبدي الذي لا ينفك عنهم لا في الدنيا ولا في الآخرة. جاء في (روح المعاني): "{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي إبعادًا عن الرحمة وعن كل خير، أي جعلت اللعنة لازمة لهم. وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة، فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حسبما داروا، أو لوقوعه في صحبة أتباعهم ... {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي وأتبعوا يوم القيامة لعنة أيضًا وهي عذاب النار المخلد. حذف ذلك لدلالة الأول عليه وللإيذان بأن كلًّا من اللعنين نوع برأسه لم يجتمعا في قرن واحد بأن يقال (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة لعنة). ونظير هذا قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ}. وعبر بيوم القيامة بدل الآخرة هنا للتهويل الذي يقتضيه المقام" (1). لقد قال في هذه القصة: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقال في السورة نفسها في قصة فرعون: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [99] فلم يذكر (الدنيا) بعد كلمة (هذه) وذلك لأمور منها: 1- أنه ذكر شيئًا من أمور الدنيا في قصة هود فقال: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}، ثم ذكر أن الله يستخلف قومًا غيرهم، وذلك في الدنيا. 2- أنه ذكر يوم القيامة وعقوبتهم فيه في قصة فرعون ولم يذكر شيئًا عن عقوبتهم في الدنيا فقال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98] ثم قال: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99]. فكان التأكيد على يوم القيامة وليس على الدنيا. بخلاف قوم هود فإنه ذكر مجيء أمر الله عليهم في الدنيا وأنه نجى هودًا والذين آمنوا معه فقال: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] فناسب ذكر الدنيا. ألا ترى أنه لما ذكر عقوبة فرعون وجنوده في الدنيا في موطن آخر فقال: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 40] ذكر الدنيا بعد كلمة (هذه) فقال: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42]. فناسب ذكر الدنيا في قصة هود وإضمارها في قصة فرعون في هذه السورة، أعني سورة هود. 3- هذا إضافة إلى أن قصة هود أطول من قصة فرعون في السورة، فإن قصة هود من الآية الخمسين إلى الآية الستين (من 50 – 60). وإن قصة فرعون من الآية السادسة والتسعين إلى الآية التاسعة والتسعين (من 96 – 99). فناسب كل تعبير موضعه من أكثر من جهة. فقد تقول: لقد قال ههنا: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} ببناء الفعل (أتبعوا) للمجهول. وقال في سورة القصص في قصة فرعون: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص: 42] ببناء الفعل للمعلوم وإسناده إلى ضمير الجماعة للتعظيم (أتبعناهم) فما السبب؟ فنقول: إن ذلك لأكثر من سبب منها: 1- أن كل آية مناسبة لبداية السورة التي وردت فيها. فقد قال في بداية سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} بالبناء للمجهول. وقال في بداية سورة القصص: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} بإسناد الفعل (تتلو) إلى ضمير المتكلم للتعظيم. فناسب كل تعبير بداية السورة التي ورد فيها. 2- إن سياق القصة في سورة القصص إنما هو في الإسناد إلى ضمير التعظيم، فقد قال: فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم (40)، وجعلناهم أئمة (41)، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة (42)، ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس (43) فأسند الإهلاك إلى ضمير التعظيم. وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر (44) ولكنا أنشأنا قرونًا (45)، وما كنت ثاويًا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين (45)، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا (46). فناسب ذلك إسناد الفعل إلى ضمير المتكلمين (أتبعناهم). وأما السياق في سورة هود فهو في الكلام على الغائب، فقد قال: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ} ولم يقل: جحدوا بآياتنا، ولا عصوا رسلنا. وقال: {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} ولم يقل: (كفروا بنا) ولا (كفرونا). فناسب ذلك قوله: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} بالبناء للمجهول. 3- أن ضمائر التعظيم لله البارزة والمستترة في القصة في سورة القصص واحد وثلاثون ضميرًا (31). وفي قصة هود أربعة ضمائر. فناسب ذلك إسناد الفعل في القصص إلى ضمير التعظيم من هذه الجهة. 4- قصة موسى في القصص أطول من قصة هود في سورة هود. فإن قصة موسى أربع وأربعون آية، من الآية الثالثة إلى الآية السادسة والأربعون. وأما قصة هود فهي إحدى عشرة آية، من الآية الخمسين إلى الآية الستين. وإن (أتبعناهم) أطول من (أتبعوا). فإن (أتبعناهم) ثمانية أحرف، وإن (أتبعوا) خمسة أحرف. فناسب التعبير الذي هو أطول القصة التي هي أطول، والذي هو أقل القصة التي هي أقصر. فناسب كل تعبير موضعه من كل جهة. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 226 إلى ص 230. (1) روح المعاني 12/87. {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} الفعل (كفر) يتعدى بحرف الجر وبنفسه. فيقال: (كفر بالله) متعديًا بحرف الجر وهو الباء. والكفر هنا نقيض الإيمان. ويقال: (كفر ربه) بتعديه إلى المفعول بنفسه وذلك يفيد معنيين: المعنى الأول: كفران النعمة، وهو نقيض الشكر. والآخر معناه الجحود وهو نقيض الإيمان. فهم جحدوا ربهم وجحدوا نعمه. جاء في (روح المعاني) في قوله: {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ}: "أي بربهم أو كفروا نعمته ولم يشكروها بالإيمان أو جحدوه" (1). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 230 إلى ص 231. (1) روح المعاني 12/87. {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} (قوم هود ) عطف بيان لعاد أو بدل منه، ذكر زيادة في التوضيح والتعيين، كما قال سبحانه {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان: 35] فذكر هرون زيادة في التنصيص مع أنه قد يستغني عن ذكره ويكتفي بذكر الأخوة كما قال سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [يونس: 87] ولم يذكر هرون. وقيل إن عادًا "عادان: الأولى القديمة التي هي قوم هود، والقصة فيهم، والأخرى هي إرم" (1). وقيل أيضًا: إن عاد إرم هي عاد هذه، وهم قوم هود، وهي عاد الأولى (2). وإنما ذكر (قوم هود) زيادة في المبالغة والتأكيد. وكرر حرف التنبيه (ألا) مرتين زيادة في ذمهم والتنبيه على سوء مآلهم. جاء في (البحر المحيط): "ثم كرر التنبيه بقوله: (ألا) في الدعاء عليهم تهويلًا لأمرهم وتفظيعًا له وبعثًا على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم" (3). ومن الطريف في هذه الآية أنه كرر اللعنة مرتين {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وذكر الدنيا مرتين: مرة باسم الإشارة (هذه)، ومرة بالاسم الصريح، وكرر عادًا مرتين، وكرر (ألا) مرتين، ودل على عاد مرتين: مرة باسمهم ومرة بذكر أنهم قود هود. وهو من لطيف التعبير. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 231 إلى ص 232. (1) الكشاف 2/104. (2) انظر فتح القدير 5/422. (3) البحر المحيط 5/236. قصة صالح وردت هذه القصة في الأعراف وهود والحجر والشعراء والنمل وفصلت والذاريات والقمر والفجر والشمس. وهي كما ذكرنا في قصتي نوح وهود ليست مكررة، بل يذكر في كل موضع جانب لم يذكر في المواضع الأخرى، وقد يذكر على أمور أو على أمر بحسب ما يقتضيه السياق وما يراد أن يركز عليه. 1- فقد دعا صالح قومه ثمود في الأعراف إلى توحيد الله وعبادته فقال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73]. وهذا ما ورد في السورة على لسان أكثر الأنبياء، فقد ورد ذلك على لسان نوح وهود وصالح وشعيب. وذكر لهم آية تدل على صدقه وأنه رسول من عند الله وهي الناقة، وسماها ناقة الله لأنها لا تعود لأحد وإنما هي لله أوجدها ربنا إيجادًا، فقد أخرجها من صخرة ولم تلدها ناقة. وحذرهم من التعرض لها بسوء وإلا أخذهم عذاب أليم. وذكرهم بنعم الله عليهم فإنه بوأهم في الأرض بعد عاد يتخذون من سهولها قصورًا وينحتون الجبال بيوتًا. ولم يذكر ذلك في موضع آخر، وإنما يذكر جانبًا واحدًا من هذه النعم. فقد ذكر أنهم ينحتون من الجبال بيوتًا في سورتي الحجر والشعراء، ولم يذكر اتخاذ القصور من السهول. وكان الجدال بين الملأ الذين استكبروا من قومه وبين المستضعفين من المؤمنين، ولم يواجهوا صالحًا بكلام أو جدال، فقد {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [ الأعراف: 75 - 76]. فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ثم تحدوا صالحًا: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78]. ٢- وأما في سورة هود فإنه دعاهم أيضًا إلى عبادة الله وتوحيده، ونحو ذلك فعل نوح وهود وشعيب، ثم قال لهم إنه أنشأهم من الأرض وجعلهم عمارًا لها. فأجابوه قائلين: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فكان الجدال بينه وبين قومه. وأما في الأعراف فقد كان الجدال بين المستكبرين من قومه وأتباع صالح. ثم ذكر لهم الآية التي تدل على صدقه وهي الناقة، وحذرهم من أن يمسوها بسوء. فعقروها فأخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. 3- وأما في سورة الحجر فإنها المرة الوحيدة التي ذكر عنهم أنهم أصحاب الحجر فذكر محل سكناهم وهو الحجر. والحِجْر: هو موطن ثمود قوم صالح، وهو أرض بين الحجاز والشام (1). ولم يذكر أنه دعاهم إلى عبادة الله، وإنما ذكر تكذيبهم المرسلين، فكأنها استكمال لما ورد في الأعراف وهود، فقد دعاهم في الموضعين السابقين إلى توحيد الله وعبادته والتصديق بنبوته وأنه جاءهم بالآية الدالة على صدقه. وقال ههنا عنهم: إنهم كذبوا المرسلين وأعرضوا عن الآيات. فهي مرحلة بعد التبليغ، ولم يذكر الآيات ولا نوعها أو ما هي؟ كما لم يذكر اسم نبيهم ولا اسم القوم، فلم يذكر اسم ثمود ولا صالح، كما لم يذكر الناقة. وذكر أنهم كذبوا المرسلين فأخذتهم الصيحة مصبحين. وهذا ما جاء في شأنهم في سورة الحجر: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الحجر: 80 - 84] لقد ذكر هنا أنه أتاهم آياته بالجمع، ولم يقل: (آية) بالإفراد، وهذا هو الموطن الوحيد الذي ذكرت فيه الآيات مجموعة في هذه القصة. وأما في المواضع الأخرى فإنه يذكرها (آية) بالمفرد (انظر الأعراف ۷۳، هود 64، الشعراء ١٥٤) أو يذكر الناقة. وذلك - والله أعلم - أنه قال{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} فذكر مرسلين ولم يذكر رسولاً واحدًا. والمرسلون لهم آيات لا آية، فناسب أن يقولها بالجمع.قد تقول: ولكنه قال في الشعراء أيضًا: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} لكنه ذكر آية وذكر الناقة. فنقول: إن السياق مختلف، فإنه في سورة الحجر لم يذكر رسولاً معينًا، وإنما ذكر الرسل على العموم، في حين أن الكلام في الشعراء على صالح، فقد قال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}، فكان المناسب أن يذكر آية صالح لأن الكلام عليه وحده. قد تقول: لقد قال ههنا: {وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [طه: 56] فقال: (كلها). وكذا جاء في سورة القمر، فقد قال: {كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42]. والكلام على فرعون في الموضعين؛ وذلك لأن آيات موسى كثيرة، وقد ذكر ربنا أنها تسع آيات (2). بخلاف آيات صالح فإنها آيات متعلقة بالناقة من حيث إنها خرجت من صخرة، وإنها كانت تسقي القبيلة كلها باللبن، وغير ذلك (3). فناسب ذكر (كلها) في آيات موسى. 4- وأما ما في سورة الشعراء فإنه ورد فيها ما ورد في عموم الرسل، فقد قال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. وهو ما قاله عموم الرسل لأقوامهم في هذه السورة كما ذكرنا في قصتي نوح وهود. فإنهم لم يأمروهم بتوحيد الله وعبادته، وإنما أمروهم بتقوى الله وإطاعة رسولهم. وهي مرحلة بعد التبليغ بتوحيد الله وعبادته. فبعد توحيد الله وعبادته أمروهم بتقوى الله وطاعة رسوله. وذلك ما قاله صالح لقومه أيضًا. ثم ذكر لهم من النعم ما لم يذكره في المواضع الأخرى، فقد قال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 146 - 149] فذكر لهم الأمن والفراهة في السكن ورفاهية العيش في الزروع والثمار والماء. فقالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أي من الذين سحروا كثيرًا حتى غلب على عقله. وطلبوا منه آية تدل على صدقه، فقال لهم: إن آية صدقه هي الناقة، وإن لها يومًا تشرب فيه الماء، ولهم يوم يشربون فيه الماء. وهذا أول موضع يذكر فيه أن الماء بين القوم والناقة لكل منهما يوم. وقد ذكر في الأعراف وهود الأكل وقال لهم: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف: 73، هود: 64] وذكر هنا الشرب. وذكر الشرب أيضًا في سورة القمر وسورة الشمس ولم يذكر الأكل. والخط التعبيري في القرآن أنه يقدم الأكل على الشرب حيث اجتمعا، سواء كان ذلك في الدنيا أم في الآخرة، وذلك نحو قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [البقرة: 60] وقوله في الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] وقد قدم الأكل في هذه القصة على الشرب مع أنهما لم يجتمعا. وهذا من لطيف التعبير. ثم حذرهم من أن يمسوها بسوء وإلا أخذهم عذاب يوم عظيم. فعقروها فأصبحوا نادمين. ولم يذكر نوع العقوبة التي حلت بهم، وإنما ذكر العذاب على العموم فقال: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} ولم يذكر صيحة أو رجفة أو غيرهما. 5- وأما في سورة النمل فقد ذكر أنه أرسل إلى ثمود صالحًا وأمرهم بعبادة الله فإذا هم فريقان متخاصمان. ولم يذكر من هذان الفريقان وما شأنهما؟ ولكن المقام يدل على أنهما فريق مؤمن وفريق كافر. ولم يطلبوا منه آية، وإنما ذكر تواطؤ تسعة رهط من قومه على قتله وأهله. ولم يرد هذا في موضع آخر من القرآن الكريم. وهو أنسب موطن لذكر ذلك فإنه كان نهاية الاختصام. ثم ذكر عاقبة هذا المكر أن الله دمرهم وقومهم أجمعين، ولم يذكر كيف دمرهم ولا نوع العقوبة التي حلت بهم. 6- وأما في فصلت فالقصة موجزة، فإنه لم يذكر إلا أنه هداهم فاستحبوا العمى على الهدى. ولم يذكر أنه دعاهم إلى شيء. ثم ذكر أن الصاعقة أخذتهم. وهذا أول موضع يرد فيه ذكر الصاعقة في هذه القصة وهذا ما ورد منها في هذه السورة: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت: 17 - 18] 7- وفي الذاريات ذكر أنه قيل لثمود: تمتعوا حتى حين، فعتوا عن أمر ربهم. ولم يذكر من القائل ولا إلى أي شيء دعاهم، وذكر أنهم عتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون. وهذا ما ورد منها: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} [الذاريات: 43 - 45] ٨- وأما في سورة القمر فإنه قال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر: 23]. وهذا هو افتتاح عموم القصص في هذه السورة، فإنها تفتتح بتكذيب الأقوام لرسلهم ابتداء من قوم نوح فعاد فثمود فقوم لوط وفرعون كما ذكرنا. ثم ذكر أنهم قالوا عن نبيهم الذي لم يذكر اسمه إنه كذاب أشر، ولم يرد مثل هذا الوصف له في موضع آخر من القرآن، فتوعدهم ربنا بقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} [القمر: 26]. ثم ذكر أنه أرسل الناقة فتنة لهم. وقال لهم إن الماء قسمة بينهم كل شرب يحضره أصحابه. فنادوا صاحبهم فعقر الناقة. ثم ذكر أنه أرسل عليهم صيحة واحدة فكانوا كالهشيم الذي يتبقى من صنع الحظيرة التي تصنع للدواب. ولم يرد مثل هذا في موضع آخر من القرآن. قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 23 - 31] 9- وأما في سورة الفجر فلم يذكر عن ثمود إلا أنهم جابوا الصخر بالواد، أي قطعوه ونحتوه. كما أنه أول مرة ذكر الوادي الذي ينحتون فيه، ولم يذكر عقوبة لهم جمعهم مع عدة أقوام بقوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13] 10- وأما في سورة الشمس فذكر أن ثمود كذبت بسبب طغيانها، وذكر أن أشقى القوم انبعث، والظاهر أنه انبعث لعقر الناقة، رسولهم حذرهم ف فقال لهم: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] أي اتركوها وأن ولا تتعرضوا لها. ولم يزد على ذلك فكذبوه فعقروها. وذكر العذاب بصورة لم يذكرها في بقية المواضع فقال: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] أي أطبق عليهم العذاب مكررًا ذلك عليهم (4). فأنت ترى أن القصة ليست مكررة، وإنما يذكر في كل موضع ما يناسب السياق الذي وردت فيه. وأنه يذكر في كل موضع منها جانبًا لم يذكر في المواضع الأخرى. الدعوة: إن أول ما دعا صالح قومه إلى عبادة الله وتوحيده فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، ثم ذكر لهم البينة التي جاءتهم وذكرهم بالنعم التي أنعم الله عليهم بها، وذلك في الأعراف 73. وأما في هود فلم يكتف بذاك وإنما طلب منهم بعد عبادة الله وتوحيده وتذكيرهم بنعمته عليهم بالإيجاد وإعمار الأرض أن يستغفروا ربهم ثم يتوبوا إليه