عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴿٥٩﴾    [هود   آية:٥٩]
{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 59 – 60]. {وَتِلْكَ عَادٌ} "إشارة إلى قبورهم وآثارهم، كأن قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا" (1). {جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ} الجحود أن يقر المرء بقلبه ولا يقر لسانه، أو هو إنكار ما تعلم من الحق. قال تعالى في قوم فرعون: {وجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. وقال في سيدنا محمد: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]. وعاد كذلك جحدوا بآيات ربهم مع علمهم أنها حق وهو ظلم وعناد. {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} لقد أطلق معصيتهم، فهم عصوا كل ما أمرتهم به رسلهم. وهذه مرتبة أخرى بعد الجحود، فالجحود أمر قلبي وقولي، وهذا أمر سلوكي وعملي، وهي مخالفة الأوامر على العموم. {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} وهذا على النقيض من موقفهم من رسلهم، فهم عصوا الرسول واتبعوا الجبابرة. وقال: (اتبعوا) ولم يقل: (تبعوا) وذلك للمبالغة في اتباع الجبابرة. ولم يقل: (واتبعوا الجبارين) أو الجبابرة، وإنما أراد استغراق الاتباع لكل جبار، فلم يقتصر اتباعهم لقسم من الجبابرة. وخص الجبابرة الذين اتبعوهم بالعناد فقال: {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} زيادة في المعصية ومخالفة اوامر الله. ووصف الجبار بأنه عنيد مناسب للجحد الذي يأبى صاحبه أن يقر بلسانه ما يقر به قلبه عنادًا واستكبارًا. وهذه مرتبة أخرى بعد المعصية. فالمعصية ألا تطبق الأوامر، فقد تتركها أو تفعل غير ذلك، وأما عاد فلم يكتفوا بذلك بل اتبعوا أمر كل جبار عنيد. فالاتباع نقيض المعصية، والجبابرة المعاندون هم أعداء رسل الله. إن هذه الآية تبين مقدار عنادهم وعتوهم من أكثر من جهة: 1- فقد قال إنهم جحدوا بآيات ربهم مع علمهم أنها حق. 2- وقال: {بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ} وهو من أسوأ الجحود، إذ إنهم جحدوا بآيات ربهم الذي تفضل عليهم بالنعم وأحسن إليهم. 3- قال: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} أي عصوا رسل ربهم المتفضل عليهم، وهو عصوهم مع علمهم أنهم رسل الله. 4- وقال: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} ولم يقل: (وعصوا رسوله) ليدل على أنهم عصوا كل ما جاء عن رسل الله ولم يتبعوا أحدًا منهم. وهذا يدل على المبالغة في المعصية، أو "لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]" (2) وعلى هذا يكون الجمع للدلالة على المبالغة في عصيانهم. 5- وقال: {وَاتَّبَعُوا} ولم يقل: (تبعوا) وذلك للمبالغة في اتباع الجبابرة وإطاعة أوامرهم. 6- وقال: {كُلِّ جَبَّارٍ} ولم يقتصروا على اتباع جبار واحد، بل ولا مجموعة من الجبابرة، بل اتبعوا كل جبار على سبيل العموم والاستغراق. 7- وقال: {عَنِيدٍ} ولم يقل: (معاند) فجاء بصيغة المبالغة ليدل على المبالغة في عناده. وذلك يدل على زيادة عتوهم وظلمهم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 224 إلى ص 226. (1) الكشاف 2/104. (2) الكشاف 2/104.