عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴿٥٨﴾    [هود   آية:٥٨]
{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] فقال ههنا: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} فذكر الذين آمنوا معه. وقال في الأعراف في القصة نفسها: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72] فقال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} ولم يذكر صفة الإيمان، ذلك أنه قال في الأعراف: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} فذكر أنه أهلك الذين كذبوا وما كانوا مؤمنين. ومعنى ذلك أنه أنجى الذين آمنوا. ولم يقل مثل ذلك في هود فناسب ذكر الذين آمنوا. ومثل ذلك ما جاء في قصة نوح في الأعراف، فإنه قال: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} [الأعراف: 64] فإنه لما ذكر أنه أغرق الذين كذبوا دل على نجاة المصدقين بالآيات وهو المؤمنون. ثم كرر التنجية فقال: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقد قيل إن تكرير التنجية للتوكيد (1). وقيل: إنه أراد أن يذكر التنجية من الهلاك أولاً، ثم ذكر صفة العذاب الذي نجاهم منه. وذلك كما تقول: إن نجاهم من الهلاك وكانت النتيجة من عذاب غليظ. وكما تقول: إنه نجاهم من الغرق، وقد نجاهم من نهر شديد الانصباب. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟ قلت: ذكر أولاً أنه حين أهلك عدوهم نجاهم، ثم قال: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} على معنى: وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ. وذلك أن الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوًا عضوًا. وقيل: أراد بالثانية: التنجية من عذاب الآخرة. ولا عذاب أغلظ منه وأشد" (2). ويقوي القول بأن المقصود بالتنجية الثانية إنما هي من عذاب الآخرة أن القرآن وصف عذاب الآخرة بأنه عذاب غليظ في عدة آيات، ولم يرد هذا الوصف لعذاب آخر. قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] وهو في الكلام على عذاب الآخرة. وقال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24]. وقال: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت: 50]. ووصف ملائكة النار بأنهم غلاظ شداد فقال: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وذلك كله مما يقوي أن المقصود بالعذاب الغليظ إنما هو عذاب الآخرة. ومن لطيف التناظر في التعبير أنه كما كرر النتيجة كرر اللعنة عليهم في الدنيا والآخرة فقال: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 60]. وهو تناظر جميل، فذكر التنجية للمؤمنين مرتين وذكر اللعنة على الكافرين مرتين. وهو مما يقوي أيضًا أن التنجية الأولى من الهلاك في الدنيا، وأن التنجية الثانية من عذاب الآخرة، وذلك أنه ذكر لعنتين: لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة. والله أعلم. وقال ههنا: {نَجَّيْنَا هُودًا} بتضعيف عين الفعل، وقال في الأعراف في القصة نفسها: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [72]. وقد ذكرنا في كتابنا (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) الفرق بين استعمال هاتين المفردتين في القرآن الكريم كثيرًا ما يستعمل (نجى) للتلبث والتمهل، ويستعمل (أنجى) للإسراع في النجاة، فإن (أنجى) أسرع من (نجى) في التخليص من الشدة والكرب (3). وقد ذكرنا بناء كل من هذين الفعلين ودلالته الصرفية (4). فاستعمل في الأعراف (أنجى) واستعمل في هود (نجى)، ذلك أن القصة في هود كانت كأنها استكمال لما ورد في الأعراف. ومعنى ذلك أن اللبث في هود أطول مما في الأعراف؛ لأن ذلك كان بعد الأعراف فشمل الزمانين فحسن ذلك استعمال (نجى) في هود. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المذكور من القصة في هود يدل على مكث أطول في قدمه مما في الأعراف، فكان الجدال بينهما أطول والمحاورة أكثر. فناسب ذلك أيضًا استعمال (نجى) في هود و(أنجى) في الأعراف. وقال: {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} ليدل على أنه ما كانت النجاة في الدنيا ولا في الآخرة إلا برحمة منه سبحانه وليس ذلك بعملهم فقط، فإن العمل لا ينجي وحده لولا رحمة الله. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 221 إلى ص 224. (1) انظر البحر المحيط 5/235. (2) الكشاف 2/104. (3) انظر بلاغة الكلمة في التعبير القرآني 74. (4) المصدر السابق 65.