عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴿٥٧﴾ ﴾ [هود آية:٥٧]
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57]
فإن تتولوا فقد أبلغتكم رسالة ربي وأعذرت وأنتم تتحملون عاقبة توليكم.
وهددهم بإهلاكهم فقال: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} وقد سبق أن ذكرهم بأنه استخلفهم بعد قوم نوح بعد إغراقهم فقال لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69].
{إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}
"أي رقيب محيط بالأشياء علمًا فلا يخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم ...
ويجوز أن يكون الحفيظ بمعنى الحافظ بمعنى الحاكم المستولي، أي أنه سبحانه حافظ مستول على كل شيء. ومن شأنه ذلك كيف يضره شيء؟" (1).
لقد قال ههنا: {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} بالتوكيد بـ (إن).
وقال في سورة سبأ: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21] من دون توكيد، ذلك أن المقام في سورة هود يستدعي التوكيد، وذلك أن عادًا قالوا لنبيهم إن بعض آلهتهم اعتراه بسوء، فتحداهم وتحدى آلهتهم بقوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 55 – 56].
ثم هددهم بالاستئصال بقوله: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} فناسب ذلك أن يقول: {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} بالتوكيد.
وأما في سبأ فالمقام والسياق مختلفان، فقد قال: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [سبأ: 20 – 21].
فليس المقام مقام تحدّ – كما ترى – وإنما هو إخبار عن أمة ماضية ليس لهم شأن مع رسول ولا نحو ذلك فلا يحتاج إلى توكيد.
وقد قدم الجار والمجرور {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} على عامله {حَفِيظٌ} للاختصاص، وذلك ليبين أنه لا يفوت حفظه شيء على الإطلاق. في حين قال في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى: 6] فأخر الجار والمجرور (عليهم) عن الخبر (حفيظ) وذلك لأنه لا داعي للتقديم، فإنه ليس المقام مقام اختصاص، فإن حفظه سبحانه لا يختص بهم، بل ربنا على كل شيء حفيظ وليس حفيظًا عليهم فقط.
فناسب كل تعبير موضعه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 219 إلى ص 220.
(1) روح المعاني 12/85.