عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿٥٣﴾    [هود   آية:٥٣]
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 53 - 55] بعد أن محض لهم النصح ودعاهم إلى أن يحكموا عقولهم فيما هم عليه وأن فيما دعاهم إليهم مصلحتهم هم لا مصلحته هو ردوا عليه بقولهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} ومعنى ذلك أنك لم تأتنا بحجة واضحة. ولعلك لو جئت بينة لآمنا لك وصدقناك. وقولهم هذا لا ينفي أن يكون هو صادقًا، فقد يكون صادقًا غير أنه لم يأت بحجة تبين ذاك. ثم ذهبوا أبعد من ذلك فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} مؤكدين موقفهم، وأنهم لا يتركون آلهتهم لقول قاله. ثم ذهبوا أبعد من ذلك فقالوا: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي لسنا مصدقين لك أصلاً. فقد نفوا أن يكون صادقًا، فذهبوا من السيء إلى الأسوأ، ذلك أنهم قالوا له أولاً: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} فلم ينفوا صدقه، ثم أمنعوا في السوء حتى قالوا له: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} فنفوا ان يكون صادقًا. ثم ذهبوا أبعد من ذلك في السوء فقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ} أي أصابك بعض الآلهة بالجنون، فكأنه لما قال لهم: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أرادوا أن يتهموه بعقله أيضًا وأن يرموه بأبعد مما رماهم به فاتهموه بالجنون، فلم يدعوا مجالاً للإيمان وأيسوه من ذلك، فكل حالة أسوأ من التي قبلها. جاء في (روح المعاني): "لقد سلكوا طريق المخالفة والعناد على سبيل الترقي من السيء إلى الأسوأ حيث أخبروه أولاً من عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد. وثانيًا: عن ترك الامتثال لقوله عليه السلام بقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} مع إمكان تحقيق ذلك بتصديقهم له في كلامه. ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه السلام بقولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} مع كون كلامه عليه السلام مما يقبل التصديق. ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضًا حيث قالوا ما قالوا" (1). إن هذه الآية كل جزئياتها مؤكدة، إذ كل تعبير فيها مؤكد بمؤكد أو أكثر. فقوله: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} تعبير مؤكد، فإنه قال: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} فنفى الفعل الماضي بـ (ما)، ولم يقل: (لم تأتنا ببينة) فينفه بـ (لم). والفعل الماضي المنفي بـ (ما) أكد من الفعل المنفي بـ (لم)، ذلك أن الفعل الماضي المنفي بـ (ما) يقع جوابًا للقسم، بخلاف المنفي بـ (لم) فهو أكد (2). فهذا التعبير منفي نفيًا مؤكدًا. وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} تعبير مؤكد، فإنه قال: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} ولم يقل: (ولسنا تاركي آلهتنا عن قولك) بالجملة الفعلية. فنفى التعبير بالجملة الأسمية المصدرة بـ (ما)، والجملة الأسمية اكد من الجملة الفعلية كما هو معلوم. ثم جاء بالباء الزائدة المؤكدة في الخبر فقال: {بِتَارِكِي} و{عَنْ قَوْلِكَ} فيه معنيان: المعنى الأول: (صادرين عن قولك) والمعنى الآخر: التعليل أي (لقولك) أي لا نترك آلهتنا لقول قلته على أية حال. وقوله: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} تعبير مؤكد، ذلك أنهم نفوا إيمانهم بالجملة الأسمية المنفية بـ (ما)، وجاء بالباء الزائدة في الخبر وهي تفيد التوكيد. وقدم الجار والمجرور على العامل (مؤمنين) وهو – أي التقديم – يفيد الاختصاص في الغالب، أي: نحن نخصّك بعدم الإيمان. ولو قال مثلاً: (ولسنا مؤمنين لك) لم يكن التعبير مؤكدًا. وقوله: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ} تعبير مؤكد، فإنه جاء بأسلوب القصر، فقد نفى بـ (إن) وأثبت بـ (ألا) ولم يقل: (نقول اعتراك بعض آلهتنا بسوء). والتعبير بأسلوب القصر تعبير مؤكد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه نفى بـ (إن) ولم ينف بـ (ما)، و(إن) أكد من (ما) في النفي كما أسلفنا. فكل جزء من الآية تعبير مؤكد – كما ترى-. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 213 إلى ص 216. (1) روح المعاني 12/82. (2) انظر معاني النحو 4/228.