عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿٥١﴾    [هود   آية:٥١]
{يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود: 51] نفي عن نفسه ما قد يظنونه أنه يبغي مطمعًا أو مالًا فقال لهم إنه لا يسألهم أجرًا على ما يبذله من النصح لهم، وذلك أدعى إلى قبول النصيحة؛ لأن ذلك يدل على أنه ناصح لهم حقًا يبغي لهم الخير. فإنه إذا كان القول مشوبًا بمطمع كان أبعد عن القبول وأدعى إلى التهمة. جاء في (روح المعاني) في هذه الآية: "خاطب به كل رسول قومه إزاحة لما عسى أن يتوهموه وتمحيضًا للنصيحة، فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير" (1). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 210 إلى ص 210. (1) روح المعاني 12/80 {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} قال ههنا: (فطرني) أي أوجدني من العدم. وهذا تعريض بآلهتهم التي يعلمون أنها ليست هي التي أوجدتهم بل أوجدهم الله كما أخبر عن المشركين سبحانه بقوله: {ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]. ومعنى ذلك أن آلهتهم لا تستحق أن تعبد وإنما يستحق العبادة الذي فطرهم وفطر السماوات والأرض. جاء في (البحر المحيط): "ونبه بقوله: {الَّذِي فَطَرَنِي} على الرد عليهم في عبادتهم الأصنام، واعتقادهم أنها تفعل. وكونه تعالى هو الفاطر للموجودات يستحق إفراده بالعبادة" (1). وجاء في (روح المعاني): "وإيراد الموصول للتفخيم، وجعل الصلة فعل الفطر الذي هو الإيجاد والإبداع لكونه أبعد من أن يتوهم نسبته إلى شركائهم" (2). قد تقول: لقد قال في قصة نوح في هذه السورة: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29]. فقال: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} فذكر اسمه العلم. وقال ههنا: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} فذكر الذي فطره. فما السبب؟ فنقول: إنه لم يجر ذكر للآلهة وعبادتها في قصة نوح في هذه السورة فجاء باسمه العلم، بخلاف هذه القصة فإنه جرى ذكر لآلهتهم، فناسب ذكر الذي فطره تعريضًا بآلهتهم ودعوتهم إلى عبادة الله وحده وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وهذا من ألطف التعقيب، فإنه مناسب لقوله: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} فإن الذي لا يبتغي مصلحة لنفسه ناصح صادق، أفلا تعقلون هذا؟ أليس الذي لا يبتغي مصلحة لنفسه ناصحًا صادقًا؟ وهو مناسب لقوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}، وفحواه أفلا تعقلون أنه لا يستحق العبادة غير فاطر السماوات والأرض وفاطر الإنسان؟ ألا تعقلون أن غير الفاطر لا يستحق أن يعبد "أو تجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئًا أصلاً، فإن الأمر مما لا ينبغي أن يخفي على أحد من العقلاء" (3). جاء في (البحر المحيط): "و{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} توقيف على استحالة الألوهية لغير الفاطر. ويحتمل أن يكون {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} راجعًا إلى أنه إذا لم أطلب عرضًا منكم وإنما أريد نفعكم فيجب انقيادكم لما فيه نجاتكم، كأنه قيل: أفلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرًا إلا من الله تعالى، وهو ثواب الآخرة؟ ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك" (4). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 210 إلى ص 212. (1) البحر المحيط 5/232. (2) روح المعاني 12/80. (3) روح المعاني 12/80. (4) البحر المحيط 5/232.