عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴿٥٠﴾    [هود   آية:٥٠]
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود: 50] ناداهم بقوله: (يا قوم) استعطافًا لهم ليسمعوا قوله وليلينوا له وأضافهم إلى نفسه. قيل: "وقرأ ابن محيصن (يا قوم) بضم الميم ... وهي لغة في المنادى المضاف حكاها سيبويه وغيره" (1). والقراءة بكسر الميم – وهي قراءة القراء العشرة – أولى وأظهر في الإضافة إلى ياء المتكلم، ذلك أن قوله: (يا قوم) بضم الميم ليست نصًا في الإضافة، بل هي تحتمل النكرة المقصودة، كما تقول: (يا رجل) أو (يا واقف) بخلاف كسر الميم فإنها نص في إضافة القوم إلى نفسه. علاوة على كون القراءة بالكسرة قراءة متواترة قرأ بها العشرة. {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} جاء بـ (من) الاستغراقية لنفي أن يكون ثمة إله غير الله على سبيل الاستغراق. وقال ههنا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}، وقال في الأعراف: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] وذلك أن القصة في الأعراف كانت أول تبليغ لهم ورد في القرآن دعاهم فيه إلى عبادة الله فلا يناسب أن يقول: (إن أنتم إلا مفترون). وأما القصة في هود فكانت بعدما ورد في الأعراف من استمساكهم بآلهتهم وردهم على نبيهم قائلين: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] واشتداد نبيهم عليهم بقوله: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71] أي إنهم افتروا على الله باتخاذهم الأوثان شركاء الله (2). فناسب أن يقول في هود: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} فكأن هذا التعبير استكمال للمحاورة بينهما والرد عليهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن التعبير في هود مناسب أيضًا لما ورد في السورة من الكلام على آلهتهم التي افتروها على الله، فقد قالوا لنبيهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53] وقالوا له أيضًا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]. فكان كل تعبير في مكانه أنسب. ونفى {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} بـ (إن) ولم ينفه بـ (ما) ذلك لأن (إن) أقوى من (ما) في النفي وأكد (3). فأكد افتراءهم على الله سبحانه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 208 إلى ص 210. (1) البحر المحيط 5/232. (2) انظر الكشاف 2/102. (3) انظر معاني النحو 4/235.