عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٤٩﴾ ﴾ [هود آية:٤٩]
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]
لقد تحدى القرآن أهل الكفر قبل هذه الآية في السورة نفسها بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14].
ولم يستجيبوا لهذا التحدي فلم يأتوا بما طلب وانقطعوا فألزمهم الحجة.
وفي هذه الآية دليل وبرهان من نوع أخر، فإنه بعد أن سرد أحداث قصة نوح مفصلة أعلن على الناس جميعًا أن هذه المعلومات إنما هي من أنباء الغيب أوحاها الله إليه، وأنه لم يكن يعلمها هو ولا قومه من قبل هذا التنزيل.
ولم ينكر ذلك أحد من قومه، ولم يدع أحد أنه كان يعلمها أو أنه أخبر محمداً بها فألزم الناس جميعهم الحجة.
فمن أعلمه بها إذن إن لم يكن ذلك وحيًا من عند الله؟
لا يمكن أن يقال: إنما علمه بشر، أو علم ذلك من أي مصدر غير الوحي، فقد قال: إنما من أنباء الغيب أوحاها الله إليه.
فلو كان قومه أو أحد من قومه يعلمها لرفع صوته وقال: أنا أعلمها، ولو كان علمه أحد لقال: أنا علمته، ورفع صوته بذلك والقرآن يتلى في مكة والمدينة، والأعداء متربصون وهم كثر.
والأن لننظر في هذه الآية وتأليفها:
1- وقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْب} ولم يقل: (تلك من الأنباء نوحيها إليك) فتكون نبأ من الأنباء علمه الناس أو جهلوه، بل ذكر أنها من الغيب الذي لم يكن يعلمه هو ولا قومه.
وهذه حجة ملزمة.
2- وقال: {نُوحِيهَا إِلَيْكَ} أي نحن الذين أخبرناك بها ولم تعلمها من طريق أخر.
وهذه حجة وإلزام اخر.
جاء في (روح المعاني) : "{نُوحِيهَا} والتعبير بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ...
والمقصود من ذكر كونها موحاة إلجاء قومه صلى الله تعالى عليه وسلم للتصديق بنبوته عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم مما نزل بالمكذبين" (1).
3- وقال: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا} فنفى بـ (ما)، ولم يقل: (لم تكن تعلمها) وذلك أن نفي الماضي بـ (ما)أكد، فإنه نفي لـ (لقد فعل) (2).
وهي تقع في جواب القسم المنفي إذا كان الفعل ماضيًا.
فأفاد ذلك توكيد عدم علمه هو وعدم علم قومه.
4- وقال: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْت} فأكد الفاعل المستتر بـ (أنت) ولم يقل: (ما كنت تعلمها ولا قومك) مع أنه يصح أن يقال ذلك لوجود الفاصل وهو الضمير (ها)، ووجود فاصل أخر وهو (لا) وكل منهما مسوّغ للعطف على الضمير المتصل ظاهرًا أو مستترًا.
وفي القرآن نظير لكل منهما (3). ولكنه جاء بـ (أنت) توكيدًا لعدم العلم.
5- وقال: {وَلَا قَوْمُكَ} فجاء بـ (لا) النافية، ولم يقل: (ماكنت تعلمها وقومك)
و(لا) هذه تفيد التوكيد وتفيد القطع بعدم علمه وعلمهم بها لا على سبيل الإفراد ولا سبيل الاجتماع. فأنت لا تعلمها، وقومك لا يعلمونها.
ولو قال: (ما كنت تعلمها وقومك) لاحتمل أن نفي العلم إنما هو عن المجموع وقد يعلمها أحد الطرفين.
6- وقال: {مِنْ قَبْلِ هَذَا} فجاء بـ (من) ليدل على أن علمهم بها إنما جاء الأن بعد الإيحاء.
ولم يقل: (قبل هذا) فيحتمل القبلية القريبة والبعيدة.
7- وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} فأمره بالصبر لينال الخاتمة المحمودة في الدنيا والأخرة، وذلك بعد أن ذكر قصة نوح وصبره على قومه لتكون له عبرة ولئلا يضيق صدره بأذى قومه، ومن المحتمل أن يكون قد حصل له ذلك وقد أشار به إلى هذا الأمر فيما تقدم من السورة بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12]
جاء في (تفسير الرازي): "{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} والمعنى: يا محمد اصبر أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار.
وفيه تنبيه على أن الصبر عاقبته النصر والظفر والفرح والسرور كما كان لنوح عليه السلام ولقومه" (4).
8- وقال: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} وكان المظنون أن يقال: (فاصبر إن العاقبة للصابرين) وذلك أن المتقين يشملون الصابرين وزيادة. فلما ذكر المتقين دخل فيهم الصابرون، ويدل على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
فذكر أن الصبر في البأساء والضراء وحين البأس إنما هو وصف واحد من أوصاف المتقين المذكورة في الآية.
فناسب أن يقول: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} فدخل في ذلك الصابرون.
هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه لم يرد مثل هذا التعبير في القرآن مع غير المتقين، فلم يرد مثلًا (إن العاقبة للصابرين) أو (للمؤمنين) أو غيرهم من غير أصحاب هذا الوصف.
وقد ورد نحو هذا التعبير في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم وهي قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، [القصص: 83]
وقوله: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} وهي آية هود هذه.
وورد تعبير قريب من هذا وهو قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
9- وقال: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} بالتوكيد بـ (إن)، في حين ورد نحو هذا التعبير من غير توكيد في موضعين من القرآن وهما قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} في سورة الأعراف: 128، والقصص: 83.
أما آية القصص فهي قوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
وهي ترى في الدار الآخرة، والعاقبة الحسنة في الدار الآخرة ليست للمتقين فقط بل لعموم المؤمنين وإن لم يكونوا متقين. فقد تكون لعصاة المسلمين ولمن لم يبلغ درجة المتقين أيضًا. فلم يؤكد أن العاقبة للمتقين. والمقام ليس مقام توكيد كما ترى.
وأما آية الأعراف فهي قوله: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 128 - 129].
وأنت ترى أن القائل هو موسى لقومه بني إسرائيل.
فإذا كان المقصود بالعاقبة وراثة الأرض المذكورة في الآية، أعني قوله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فالمقام ليس مقام توكيد فإن موسى لم يعدهم بذلك وعدًا قاطعًا، وإنما قال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129].
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ليس استخلافًا على الدوام، وإنما هو استخلاف زائل. بخلاف أمة محمد الذين وعدوا بالاستخلاف في الأرض وعدًا قاطعًا من الله وهو قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
فأكد العاقبة للمسلمين بقوله: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} بتوكيدها لنبيهم، ولم يؤكد موسى لقومه. وهو المناسب.
وإن كان المقصود بالعاقبة الحسنة في الآخرة فإن المتقين من أمة محمد أكثر بكثير من بني إسرائيل، فإن اليهودية دين منسوخ نسخته النصرانية ونسخهما الإسلام، والإسلام باق إلى يوم القيامة، وأتباعه باقون حتى نهاية الدنيا، فلا شك أن العاقبة سواء كانت في وراثة الأرض أو في الآخرة فهي في أتباع الرسول محمد أكثر وأتم وأوسع ولذا فهي أكد.
فناسب التوكيد في خطاب الرسول دون الموطنين الآخرين.
وقد ذكرنا أمة محمد وبني إسرائيل؛ لأن أية هود إنما هي في خطاب نبي الإسلام محمد والوعد يشمله ويشمل أمته.
وإن آية الأعراف إنما هي في خطاب بني إسرائيل كما نصت عليه الآية.
ثم هناك أمر آخر حسن التوكيد في آية هود دون آية الأعراف وهو أن الخطاب في آية هود إنما هو الله سبحانه لرسوله محمد.
وأن الخطاب في آية الأعراف إنما هو من موسى لبني إسرائيل.
ولا شك أن خطاب الله أكد من خطاب موسى، فناسب التوكيد في آية هود من جهة أخرى.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 191 إلى ص 196.
(1) روح المعاني 12/75.
(2) انظر كتاب سيبويه 1/460، الاتقان 1/176، معاني النحو 4/227.
(3) قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ} [الرعد: 23] فعطف (من صلح) على الواو في (يدخلونها)، والفاصل الضمير (ها).
وقال: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} فعطف (آباؤنا) على الضمير (نا)، والفاصل (لا). والضمير المستتر من الضمائر المتصلة، وأما المحذوف فقد يكون متصلًا وقد يكون منفصلًا.
(4) تفسير الرازي 6/361.
قصة هود
كما ذكرنا في قصة نوح فإن قصة هود في القرآن في مواضع متعددة ولكنها ليست متطابقة، بل قد يذكر في موضع ما لا يذكره في المواضع الأخرى، وذلك بحسب السياق وبحسب ما يريد التركيز عليه.
لقد وردت هذه القصة في الأعراف وفي سورة هود والشعراء وفضلت والأحقاف والذاريات والقمر والحاقة والفجر.
وهي قد يكون فيها تفصيل في موضع، وفي موضع آخر يذكر جانبًا من جوانبها بإيجاز.
وإليك إيضاح ذلك:
1- فقد جاء في سورة الأعراف - وهي أول سورة وردت فيها هذه القصة - أن هودًا دعا قومه إلى عبادة الله وتوحيده: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65].
فتصدى له الملأ الذين كفروا من قومه وسفهوه واتهموه بالكذب {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66].
فنفى أن يكون به سفاهة وأكد لهم أنه رسول من رب العالمين وأنه لهم ناصح أمين.
فرفضوا ادعاءه قائلين: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70].
فاشتد عليهم نبيهم قائلًا: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 71].
ويظهر أن قوله: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} إنما هو جواب لتحديهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
فهم قالوا له: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} وهو أجابهم بقوله: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }
ثم جاء الأمر الحاسم بنجاته ومن وإهلاك المكذبين تصديقًا لما وعدهم به { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
2- وفي سورة هود ذكر أيضًا أنه دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ }[هود: 50] غير أن ما قاله في هود لا يطابق ما قاله في الأعراف. فإنه قال لهم في الأعراف: {أَفَلَا تَتَّقُونَ}.
وقال في هود: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}.
وذلك أنهم قالوا في الأعراف: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] فقال لهم: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي إنهم افتروا على الله. فقال لهم في هود: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} فكان ما ذكره في هود إنما هو تعقيب على ما قالوه في الأعراف و استكمال له.
ثم إنه قال لهم إنه لا يسألهم على دعوته أجرًا.
ولم يقل مثل ذلك في الأعراف.
ووعدتهم بالخير الكثير إن هو أطاعوه، فإن ربه سيرسل السماء عليهم مدرًارًا ويزيدهم قوة إلى قوتهم.
ولم يقل مثل ذلك في الأعراف.
فردوا عليه قائلين إنه لم يأتيهم ببينة، وإنهم لا يتركون آلهتهم بسبب قوله. غير أنه لم تكن المواجهة بينهما على نحو ما ورد في الأعراف، بل كانت أخف، ذلك أن ما ورد في الأعراف إنما هو قول الملأ الذين كفروا من قومه خاصة.
وأما المواجهة في هود فقد كانت مع عموم القوم، وعموم القوم ليسوا كالملأ الذين كفروا، أي أشراف قومه الكافرين، فهم متفاوتون في الإجابة.
وعلى كل حال فهم أخف من الملأ الذين كفروا، ولذا لم يصفوه بالسفه ولم يصرحوا بكذبه، وإنما قالوا له: { يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 53 - 54].
أي أصابك سوء من بعض الآلهة فتقول ما تقول، ولم يصرحوا بأنه أصابه جنون مع أنهم يعنون ذلك، وإنما خففوا في المواجهة فقالوا: (أصابك سوء).
ولذا كان جوابه لهم مناسبًا لما قالوا فيه. فقد قال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} فقد تحداهم وتحداهم وتحدى آلهتهم بأن يكيدوه ولا يمهلوه.
ولم يرد نحو ذلك في الأعراف.
ولما كانت المواجهة في الأعراف أشد وإنهم تحدوه كانت العقوبة أشد، فقد قال فيها: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِين} [الأعراف: 72].
ولم يقل مثل ذلك في هود، وإنما قال: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] ولم يذكر أنه قطع دابر الذين كذبوه.
فهم في الأعراف تحدوه، وفي هود هو تحداهم.
فأنت ترى أنه ذكر في كل موطن جانبًا لم يذكره في الآخر.
3- وفي سورة الشعراء بدأ القصة بقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِين} [الشعراء: 132].
وهذا ما تبدأ به جملة من القصص في هذه السورة.
فالقصة هنا متناسبة مع القصص في السورة من ناحية، ومن ناحية أخرى كأنها استكمال لما ورد في الأعراف وهود، وذلك بعد تكذيب عاد لرسولهم الأعراف وهود قال في الشعراء: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِين}.
ولم يذكر أنه دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده كما فعل في الأعراف وهود، وإنما ذكر ما بعد ذلك فقال: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 123 - 127].
وهذه العبارات قالتها عموم الرسل لأقوامهم في هذه السورة، فقد قالها نوح لقومه، وقالها هود وقالها صالح وقالها لوط وقالها شعيب.
ثم بكتهم بما يفعلون قائلًا: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128 - 130] وذكرهم بالنعم التي أمدهم بها رب العالمين.
ولم يرد مثل ذلك في قصة هود في المواضع الأخرى من القرآن الكريم. وهذا متناسب مع سائر القصص في السورة.
فرد عليه القوم قائلين: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 136 - 138] فأهلكهم رب العزة وجعلهم آية فقال: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 139 - 140].
وهذا التعقيب جرى بعد عموم القصص في الشعراء.
فأنت ترى أنه ذكر الجواب من القصة لم يذكرها فيما سبق من القصص.
4- وأما في سورة فصلت فقد ذكر استكبارهم واعتدادهم بقوتهم واغترارهم بها حتي قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، ثم ذكر عقوبتهم وأنه أرسل عليهم ريحًا صرصرًا أذاقتهم عذاب الخزي في الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى.
وهذا أول موضع يذكر فيه نوع العذاب الذي حل بهم وأنه بالرياح.
ولم يذكر دعوة رسولهم لهم ولا موقفًا منه، وإنما لخص قصتهم لأهل مكة ولمن يعتبر. فهي تختلف عن كل ما مر من القصص.
وهذا ما رود من هذه القصة في فصلت:
{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15 - 16].
5- وأما في سورة الأحقاف فإنه ذكر مساكنهم، وهي أول مرة تذكر فيها المساكن وأنها بالأحقاف فقال: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: 21]. والاحقاف في اليمن.
وقال لهم رسولهم منذرًا ومحذرًا: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21].
فأجابوه قائلين: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22].
فإنه لما خوفهم بعذاب يوم عظيم، تحدوه قائلين: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
ثم ذكر كيف أنهم استقبلوا عارض العذاب فظنوه سحابًا ممطرًا وقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}
ثم ذكر مآلهم وأنه أرسل عليهم ريحًا دمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم (الآية25).
وهذه أول مرة تذكر فيه مساكنهم المدمرة الخالية، كما أنه أول مرة ذكرت مساكنهم في الجزيرة.
6- وأما في الذاريات والقمر والحاقة والفجر فلم يذكر دعوة ولا موقفًا من رسولهم، وإنما ذكر عاقبتهم وهلاكهم.
وهو يذكر في كل موضع ما لم يذكره في الموضع الآخر من التفصيل وكيفية الإهلاك.
وكل منها مناسب لما ورد في موضعه.
وبهذا يتضح أن القصة ليست متماثلة في تفصيل أحداثها.
تذكيرهم بالنعم:
إن التذكير بالنعم في القصة ليس متماثلًا. فقد يذكّرهم في موضع على وجه الإجمال، وفي موضع آخر على وجه التفصيل.
وقد لا يذكر ذلك في مواضع أخرى إذ لا يقتضي السياق ذكره.
1- فقد قال في الأعراف: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69].
فذكرهم ببصطة أجسامهم وقوتها، وذكرهم بما أنعم الله عليهم على العموم.
2- وأما في سورة هود فإنه دعاهم إلى الاستغفار والتوبة ليمدهم ربهم ببركات السماء ويزيدهم قوة إلى قوتهم.
ومعنى ذلك أن الله قد أعطاهم قوة وأنه سيزيدهم قوة إلى قوتهم، فذكر أن لهم قوة على العموم ولم يخصصها.
لقد ذكر في آية الأعراف بصطة الجسم وقوته، وهنا ذكر القوة على العموم، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].
3- وقد ذكر في الشعراء شيئًا من مظاهر قوتهم وعدد آلاء الله عليهم، وكيف تصرفوا في هذه النعم فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 128 - 134].
ففصل ما أجمله في الأعراف وهود من آلاء الله عليهم في أجسامهم وأنهم إذا بطشوا بطشوا جبارين.
وفصل فيما أنعم عليهم من الأنعام والبنين والجنات والعيون.
فكأن ما ورد في الشعراء تفصيل لما أجمله في الموطنين السابقين.
4- وفي فصلت ذكر استكبارهم في الأرض بغير الحق واعتدادهم بقوتهم واغترارهم بها والاستطالة على خلق الله. قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]
5- ولم يذكر شيئاً عن ذلك في الأحقاف ولا في الذاريات ولا في القمر ولا في الحاقة.
6- وكذلك في سورة الفجر، فإنه لم يذكرهم بالنعم وإنما وصفهم أو وصف بلادهم بأنها ذات العماد ثم ذكر صب العذاب عليهم وعلى الأقوام الكافرة الأخرى.
العاقبة والهلاك:
لم يكرر ذكر عاقبة عاد ولا كيفية هلاكهم، وإنما يذكر في كل موضع جانبًا من جواب العقوبة.
فقد يذكر العقوبة على وجه العموم في موضع ويفصل في موضع آخر، ولكنه لم يذكرها على نمط واحد، بل يذكر في كل موضع ما يناسب السياق وجو السورة.
1- فقد قال في الأعراف: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
فذكر نجاته والذين معه، وذكر أنه قطع دابر الذين كذبوا، غير أنه لم يذكر نوع العقوبة ولا كيف قطع دابرهم.
2- وفي هود لم يذكر نوع العقوبة أيضًا وإنما ذكر الأمر بصورة أخرى، فقد قال إنه نجى هوداً والذين آمنوا من عذاب غليظ.
ولم يذكر نوع هذا العذاب ولا أنه قطع دابر الذين كذبوا، وإنما قال إنهم أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة.
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 58 - 60].
3- وأما في الشعراء فقد قال: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ} ولم يذكر كيفية الإهلاك، كما أنه لم يذكر نجاته ونجاه من معه، ذلك أنه خوفهم بالعذاب قائلًا: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فقالوا له: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} فأهلكهم .
4- وأول موطن يرد فيه ذكر نوع العقوبة إنما هو في فصلت، فقد ذكر أنه أرسل عليهم ريحًا صرصرًا في أيام نحسات، ولم يذكر عدد الأيام تلك. ولم يذكر ماذا فعلت هذه الريح بهم أو بمساكنهم. قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُون} [فصلت: 16] ولم يذكر نجاة هود ومن معه، ذلك أنه حذر قريشًا أن تصيبهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فذكر عذابهم.
5- وأما في الأحقاف فزاد في وصف الريح وأنها جاءت على هيئة عارض، أي سحاب ممطر واستبشروا بها فإذا هي ريح مدمرة تدمر كل شيء فلم يبق منهم إلا مساكنهم.
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [ الأحقاف: 24 - 25].
وهذا هو الموطن الوحيد الذي ذكر فيه محل سكناهم وأنه بالأحقاف، وأن الريح أهلكتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
وهذه هي المرة الوحيدة التي ذكرت فيها المساكن وأنها بقيت بعدهم خاوية خالية.
ولم يذكر في موضع آخر محل سكناهم ولا مساكنهم.
وذكر المساكن مناسب لذكر موضع سكناهم وهي الأحقاف.
ولم يذكر نجاته، وذلك أنه خوفهم بالعذاب قائلًا: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فقالوا غير مبالين: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] فذكر هلاكهم على نحو ما ورد.
6- وأما في الذاريات فقد زاد في وصف الريح وعتوها وأنها عقيم لا تأتي بخير وأنها لا تأتي على شيء إلا دمرته دمارًا تامًا. قال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41 - 42].
7- وأما في القمر فقد ذكر عمل الريح في الناس فخصص الوصف.
ففي الأحقاف ذكر الدمار على العموم وذكر المساكن.
وزاد في وصفها في الذاريات.
وأما في القمر فخصص فعلها في الناس فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 19 - 21].
وهذا أول موطن يذكر فيه ما فعلته الريح في الناس وأنها تنزعهم كأنهم أعجاز نخل منقعر.
فخصص بعد العموم.
8- وأما في الحاقة فزاد في وصفها وذكر أنها عاتية وذكر مدتها. وهذا هو الموطن الوحيد الذي ذكرت فيه مدة الريح وأنها سبع ليال وثمانية أيام حسومًا.
ثم ذكر أنه لم يبق من عاد أحد.
قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 6 - 8].
وانتهى المشهد وكانت الخاتمة ههنا، ولم يذكر بعد ذلك شيئًا عن نهاية عاد وعاقبتها، فقد انتهى كل شيء بقوله: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}.
9- وختم ذكر عاد في سورة الفجر، فقد ذكر في هذه السورة اسم بلدهم على ما قيل ووصفها. وهو ما لم يرد في موطن آخر، فقد ذكر أنها {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}.
ومما قيل في إرم "أنها مدينة عظيمة في اليمن، والوصفان لها و المراد ذات البناء الرفيع أو ذات الأساطين التي لم يخلق مثلها سعة وحسن بيوت وبساتين في بلاد الدنيا" (1).
وقيل: إن إرم هي اسم للقبيلة في عاد إرم (2).
وعلى كلا التفسيرين فقد ذكر في هذه السورة ما لم يذكره في أي موضع آخر من القرآن، سواء كانت إرم اسمًا لمدينتهم أم اسمًا لقبيلتهم.
ومن الملاحظ في هذه القصة أنه ذكر في الأعراف النجاة والإهلاك.
وفي هود ذكر النجاة ولم يذكر عقوبة غير قوله:{ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ }
وفي الشعراء وفصلت والأحقاف والذاريات والقمر والحاقة والفجر ذكر العقوبة والإهلاك ولم يذكر النجاة.
وكل ذلك متناسب مع السياق في كل سورة، ومع جو السورة وما ورد فيها.
ومن الملاحظ أيضًا في قصة عاد أنه لم يذكر أن نبيهم دعا على قومه أو دعا بالنجاة في كل ما ورد من القصة.
كما أنه لم يذكر أهله وكيف كانوا كما مر في قصة نوح.
فاتضح من ذلك أن القصة لم تتكرر وأنه في كل موطن يذكر ما لا يذكره في موطن آخر.
والآن نعود إلى آيات القصة في سورة هود لنتلمس شيئاً من جوانبها الفنية.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 197 إلى ص 208.
(1) روح المعاني 30/123.
(2) فتح القدير 5/423، روح المعاني 30/123.