عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿٤٦﴾    [هود   آية:٤٦]
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] قال له ربه إنه ليس من أهلك؛ لأن الكفر يقطع النسب، وبين له علة ذلك قائلًا: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فأخبر عن ابنه بالمصدر وذلك للمبالغة، فإنه إذا كان الشخص مكثرًا من الوصف مبالغًا فيه قد يخبر عنه بالمصدر وقد يوصف بالمصدر فيقال مثلًا: هو رجل صوم أو زَوْر ونحوه. ولا يقال ذلك لمن لم يكثر. والمعنى أن ابنك يا نوح قد تحول إلى كتلة عمل غير صالحة ليس فيها من عنصر الذات شيء جاء في (الكشاف): "وجعلت ذاته عملًا غير صالح مبالغة في ذمه كقولها: (فإنما هي إقبال وإدبار)" (1). وجاء في (تفسير الرازي): "إن الرجل إذا كثر عمله وإحسانه يقال له: إنه علم وكرم وجود. فكذا ههنا لما كثر إقدام ابن نوح على الأعمال الباطلة حكم عليه بأنه في نفسه عمل باطل" (2). وقال: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فحذف ياء المتكلم في الرسم وأشار إليها بالكسرة. وذلك أنه كما أشار إلى طلب في نجاة ابنه ولم يصرح به أشار به بالكسرة إلى ياء المتكلم ولم ترسم خطًا. في تقول: ولكنه قال في سورة الكهف في موسى والرجل الصالح: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] فقال أولًا: إن السؤالين مختلفان في المعنى، فالسؤال الذي خوطب به نوح معناه الطلب، أي لا تطلب ولا تلتمس مني ما ليس لك به علم. وأما السؤال الذي خوطب به موسى فمعناه الاستفهام والاستفسار، أي لا تستفهم ولا تستفسر عن شيء حتي أبينه لك. ولا شك أن الاستفهام والسؤال يحتاج إلى إيضاح وشرح أكثر مما يحتاجه طلب الحاجة أو طلب شيء من الأشياء. فطالب الحاجة إما أن يجاب بالإيجاب أو الرفض. وأما المستفهم فلا بد أن يبين له الأمر حتى يعيه. ثم إن السؤال الذي خوطب به نوح إنما هو إشارة إلى طلب معين وهو نجاة ابنه. وأما الذي خوطب به موسى فإنه غير معين، ومن الراجع أن تتعدد الأسئلة بحسب الحوادث التي سيوجهها. فلما كان السؤال في قصة نوح لأمر واحد حذف الياء لقلة الأسئلة. ولما كان السؤال في قصة موسى غير محدد ويحتمل التعدد ذكر الياء لأنه سيواجه المسؤول أكثر من مرة. فاختصر في السؤال الواحد بحذف الياء واكتفى بالكسرة. وأعطى اللفظ كله في احتمال التعدد. وقد قيل إن الياء كسرتان فاكتفى بكسرة واحدة في الطلب الواحد. وجاء بما هو أطول وأكثر في احتمال التعدد. فناسب كل تعبير موضعه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 180 إلى ص 182. (1) الكشاف 2/101. (2) تفسير الرازي 6/357، وانظر تفسير البيضاوي 297.