عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴿٤٥﴾ ﴾ [هود آية:٤٥]
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 45 - 45].
1- قال في أية سابقة: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42] فاستعمل فعل النداء وحده (نادى) ولم يستعمل معه فعل القول، فلم يقل: (ونادى نوح ابنه فقال يا بني).
وقال ههنا: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فاستعمل فعل القول (فقال) إضافة إلى الفعل (نادى) وذلك أن هذا الموقف أهم من الأول، فإنه بعد غرق ابنه حين أدركته عاطفة الآباء وأدركه الحزن لغرقه.
وقد ذكرنا الفرق بين ذكر ما فيه معنى القول من الأفعال وحده نحو نادى ووصى وسأل، وما ذكر معه فعل القول نحو (نادى فقال) و(سأل فقال) ونحوها في كتابنا (الجملة العربية تأليفها وأقسامها) وبينا أن ما ذكر فيه القول مع ما فيه معناه أكد وأهم، فلا نعيد القول فيه (1).
لقد قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ} والفاء هذه للترتيب الذكري وهي تفيد التفصيل بعد الإجمال، وذلك أن تذكر المعنى مجملًا أو لًا ثم فصله بقوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] فقد ذكر السؤال مجملًا أولًا ثم فصله بقوله: {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}، وقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] فذكر الإهلاك على العموم وفصله فيما بعد.
ونحوه قوله: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فإن قوله: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} تفصيل للنداء" (2).
فكان الاهتمام في التعبير في الآية من أكثر من جهة:
منها أنه جمع لفظ القول مع ما فيه معنى القول وهو (نادى) (فقال)
ومنها أنه فصل بعد الإجمال، والتفصيل بعد الإجمال يفيد المبالغة والاهتمام (3).
2- لقد قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} فذكر لفظ الرب ولم يذكر غيره من الأسماء الحسنى، فلم يقل مثلًا: (ونادى الله) أو (نادى الحي القيوم) أو غير ذلك من أسمائه الحسنى، ذلك أنه لم يستعمل فعل المناداة في القرآن الكريم إلا مع الرب دون بقية أسمائه الحسنى، سواء كان النداء من العبد لله أو من الله للعبد وذلك نحو قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]، وقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 83]، وقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 89].
وكذلك إذا كانت المناداة من الله فإنه يسند الفعل إلى لفظ الرب فقط، وذلك نحو قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10]
وقوله:{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22]
وقوله: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 15 - 16].
وهو المناسب فإن الإنسان إذا احتاج شيئًا طبله من ربه وهو مربيه والقائم على أمره.
ونحو ذلك الدعاء. فإنه لم يرد في القرآن إلا مع لفظ الرب وذلك نحو قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147]، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83].
ولم يرد الدعاء بغير لفظ الرب إلا في موطن واحد وهو قوله {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
وهو الأنسب، فلا يناسب أن يقال: (ربنا إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) لأن الرب هو المربي والمعلم والهادي، فالمناسب إذا جاء بلفظ الرب أن يقال: (إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه واشرح صدورنا له) فلما كان الدعاء بطلب العذاب لم يصح أن يطلب ذلك من ربهم الذي هو متولي أمرهم والقيم عليهم.
ولم يرد الدعاء بلفظ (اللهم) وحده في غير هذا الموطن.
قد تقول: ولكنه قال: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114].
فنقول: إنه ذكر الرب مع (اللهم) فقال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا}.
وقد تقول: لقد قال في أصحاب الجنة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [يونس: 10].
فنقول: ليس في هذا القول دعاء شيء ولا طلب حاجة.
3- قال: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} بحذف حرف النداء وذلك ليصل إلى مقصودة بأقصر سبيل ولئلا يضيع الوقت وابنه غارق تحت الماء، إذ لعله يجد سبيلًا على إنقاذه في أقصر وقت.
والقرآن يحذف حرف النداء في نداء كلمة (رب) في الأكثر فيقول مثلًا: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: 101]، {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38].
ولم يذكر حرف النداء في نداء الرب على كثرة ما ورد إلا في موطنين وهما قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، وقوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 88] وذلك أن الرسول ضاق صدره بقومه وكفرهم كما أخبر عنه سبحانه بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] فمد صوته بنداء ربه لعله يخفف عما يجد في نفسه من الضيق والبرم.
ومد الصوت قد يخفف عما في النفس، والفضفضة في الكلام تخفف، وحبس الكلام قد يقتل صاحبة فقال: (يا رب) فأطال شيئًا في الكلام لعله يروّح عما يجد في نفسه.
هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى أن ذكر حرف النداء هو المناسب للسياق في الموطنين.
ففي أية الفرقان ناسب ذكر (يا) سياق ما ورد من عذاب أهل النار ومدهم الصوت بالندم وذلك قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 27 - 28] فناسب مدهم الصوت بالندم في الآخرة مد صوت الرسول بنداء ربه لما فعلوا به في الدنيا من ضيق وأذى. فالرسول قال في الدنيا: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا}.
وهم يقولون في الأخرة: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}.
بذكر (يا) في الموطنين. وكذا السياق في أية الزخرف، فإن مد صوت الرسول بالنداء مناسب لمناداة أهل النار مالكًا ليقضي عليهم ربه كما أخبر عنهم سبحانه قائلًا: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77].
وهذا مناسب لإيذائهم رسولهم في الدنيا، فإنه مد صوته مناديًا ربه قائلًا: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 88].
فقال له ربه: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89].
فالرسول نادى ربه في الدنيا قائلًا: يا رب إن هؤلاء لا يؤمنون، وهم في الأخرة ينادون مالكًا قائلين: يا مالك ليقض علينا ربك.
فما أجمل التناسب في التعبير وأجله!
4- وقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} مشيرًا إلى ما وعده ربه من نجاة أهله ولم يصرح بذلك تأدبًا مع ربه، فإنه لم يقل: (لقد وعدتني بنجاة أهلي وهذا ابني قد غرق، فكيف ذاك؟)
وقال: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ولم يقل: (وما وعدتني به الحق) وإنما أخرج وعده مخرج العموم، فكل ما يعد به ربه هو الحق فدخل فيه ما وعده.
جاء في (روح المعاني): "{وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} أي وإن وعد ذلك أو كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف، فيدخل فيه الوعد المعهود دخولًا أوليًا" (4).
وقال: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ولم يقل: (وإن وعدك حق) بل جعل وعده هو الحق حصرًا وهو سيقع حتمًا لا يمكن أن يتخلف أو يتغير.
جاء في (الكشاف) : "{وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} أي وإن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أعلي فما بال ولدي؟" (5).
{وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}
يجوز أن يكون ذلك من الحكم وهو القضاء، ويجوز أن يكون من الحكمة. فيجمع التعبير عدة معان: (أقضى القضاة) و(أحكم القضاة) و(أقضى الحكماء) و(أكثرهم حكمة) (6) فجمع التعبير عدة معان كلها مرادة.
جاء في (الكشاف): "{وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أي أعلم الحكام وأعدلهم؛ لأنه لا فضل لحكام على غيره إلا بالعلم والعدل ... ويجوز أن يكون من الحكمة على أن يبني من الحكمة حاكم بمعنى النسبة، كما قيل دارع من الدرع" (7).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 174 إلى ص 180.
(1) انظر كتابنا (الجملة العربية تأليفها وأقسامها) 257 وما بعدها.
(2) انظر كتابنا (معاني النحو) 3/277 (العطف بالفاء).
(3) انظر كتابنا (معاني النحو) 3/378، وانظر حاشية الصبان 2/195.
(4) روح المعاني 12/68.
(5) الكشاف 2/100.
(6) انظر كتابنا (التعبير القرآني) – تفسير سور التين.
(7) الكشاف 2/100.