عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿٤٤﴾    [هود   آية:٤٤]
{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44]. ذُكر في هذه الآية الشيء الكثير وأُفردت فيها رسائل، ومما قيل فيها: "أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية" (1). وقيل فيها أيضًا: إنه "قد أمر فيها ونهى وأخبر ونادى وسمى وأهلك وأبقى وأسعد وأشقى وقصَّ من الانباء ما لو شرح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام" (2). ونحن نقول: إن كل تعبير بمقدار أقصر سورة معجز للبشر أجمعين، بل معجز للثقلين إلى أخر الدهر. وعلى أية حال فنحن نذكر شيئًا كم الأمور البيانية في هذه الآية: 1- بدأ بفعل القول (قيل)، والقول يقال لمن يسمع ويعقل. ثم نادى، والمنادى ينبغي أن يعلم أنه نودي لسماع شيء ما أو تبليغه بأمر، وذلك إذا لم يكن النداء مجازًا، وإنما نودي لأمر ينبغي أن يسمعه أو يفعله. ثم أمر على سبيل الحقيقة والاستعلاء وليس على سبيل المجاز. والمأمور ينبغي أن يكون عالمًا بما أمر به وخاصة إذا كان الأمر طلب من المأمور أن يفعل ما أمر به. وهذا كله يدل على أن الأرض والسماء سمعتا وعقلتا وأذنتا للقائل وامتثلتا لما أمرتا به. وليس هذا نظير نداء أو أمر لما لا يعقل وإنما قيل تجوزًا، كقول الشاعر مخاطبًا الليل: فقلت له تمطى بصلبه وأردف أعجازًا وناء بكلكل ألا أيها اليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل وإنما القول والنداء والأمر في الآية كلهن على سبيل الحقيقة. وإن كل واحدة من السماء والأرض فعلت ما يخصها، فاستجابتا وفعلتا كما يفعل العاقل المقتدر على تنفيذ ما أمر به. ومع أن النداء للأرض و السماء وهما ما هما من الكبر والعظمة لم يذكر القائل، وإنما بنى فعل القول للمجهول فقال: (وقيل). وهذا يدل على عظمة القائل وسطوته وإن لم يفصح عن ذاته فامتثلتا لأمره. جاء في (الكشاف): "نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب ... ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله (ابلعي ماءك وأقلعي) من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعه عليه، كأنها عقلاء مميزون ... ويفزعون من التوقف دون الامتثال له والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث" (3). 2- وقال: (يا أرض) فنادها بحرف النداء (يا) الذي هو للبعيد، ولم يرد في القرآن الكريم حرف نداء غيره. إن هذا النداء يدل على عظمة المنادي، ذلك أنه ناداها باسم الجنس {يَا أَرْضُ ابْلَعِي}، وهو كما تقول لشخص- ولله المثل الأعلى - يا رجل افعل كذا، أو لا تفعل كذا. وجردها من وصف أو إضافة أو غير ذلك مما يفيد التشريف أو التكريم لتستجيب. فلم يقل مثلًا: ( يا أرضي) فيضيفها إليه، أو يا أرض الخير و يا سماء الخير والبركة، ولا يا أيتها الأرض المباركة، ولا أي وصف يشعرها بالتكريم والتشريف. كما إنه لم يقل: (يا أيتها الأرض). فيتوصل إلى ندائها بـ (أيّ) لعلها كانت غافلة فتسمع آخر النداء، إذ لا يمكن الغفلة عن أي حرف يصدر عن هذا المنادي. إضافة إلى الإيجاز الذي اتسمت به الآية، فقوله (يا أرض) أوجز من (يا أيتها الأرض). جاء في (روح المعاني): "اختير (يا) دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به. ولم يقل: (يا أرض) بالكسر؛ لأن الإضافة إلى نفسه جلَّ شأنه تقتضي تشريفًا للأرض وتكريمًا لها فترك إمدادًا للتهاون. ولم يقل: (يا أرض) بالكسر؛ لأن الإضافة إلى نفسه جلَّ شأنه تقتضي تشريفًا للأرض وتكريمًا لها فترك إمدادًا للتهاون. ولم يقل: (يا أيتها الأرض) مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصدًا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام" (4). 3- وقال: (ابلعي) ولم يقل (ابتلعي) لأن ابتلع على وزن (افتعل) الذي يدل على التكلف والاجتهاد، وهو يحتاج إلى وقت أطول، وإنما قال: (ابلعي) الذي هو أقصر بناءً وزمانًا فتبلعه في أقصر وقت. وهذا إضافة إلى الإيجاز: فإن (ابلعي) أوجز من (ابتلعي). وجاء في (روح المعاني): "واختير لفظ (ابلعي) على (ابتلعي) لكونه أخضر وأوفر تجانسًا بـ (أقلعي)" (5). 4- وقال: {ابْلَعِي مَاءَكِ} فذكر مفعول البلع؛ لأن بلع الماء هو المقصود، ولم يحذف المفعول به فيقول: (يا أرض ابلعي) فيشمل البلع كل ما عليها من أشجار وحيوان وغيرها. جاء في (روح المعاني): "وإنما لم يقل: (ابلعي) بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرًا إلى مقام عظمة الأمر المهيب وكمال انقياد المأمور" (6). 5- وقال: (ماءك) بالإفراد "دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء" (7). "وعبر عنه بالماء بعدما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى؛ لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل" (8). 6- وقال: (ماءك) بإضافة الماء إليها لأن الماء الذي ينزل من السماء إنما هو للأرض، ينزل إليها وينفذ في داخلها ويخرج منها على هيئة عيون وآبار يستفيد منه الناس. فهو ماؤها سواء ما تفجر منها وما نزل إليها من السماء. ثم في الحقيقة أن ما ينزل من السماء من ماء إنما هو ماء الأرض؛ لأن السحب إنما تتكون من البخار الذي يتصاعد من مياه الأرض بحارها وأنهارها، فهو على كل حال ماء الأرض. 7- ثم نادى السماء فقال لها: (أقلعي) أي أمسكي وكفي، ولم يذكر عما ذا تمسك لأنه معلوم وهو المطر وليس شيئاً أخر، فلم يذكر متعلقاً. جاء في (روح المعاني): "ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال الماء، فلم يذكر متعلق (أقلعي) اختصارًا واحترازًا عن الحشو المستغنى عنه" (9). فذكر متعلق البلع في الأرض أنسب، وإطلاق الإمساك في السماء أنسب. 8- قدم أمر الأرض ببلع الماء لأنه أهم وذلك لترسو السفينة وهو مطلوب أهل السفينة، فإنها إن لم ترس السفينة فلن يخرج من فيها منها. وإن لم تبلع الأرض ماءها فلن ترسو السفينة فقدم الأهم. ثم إن الماء بدأ منها، فإن ذلك بدأ من التنور الذي فار الماء منه. جاء في (روح المعاني): "قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرًا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولًا" (10). 9- قال: {وَغِيضَ الْمَاءُ} أي ذهب ونشف. ومعنى ذلك أن الأرض والسماء امتثلتا لأمر الأمر. وهذا يدل على عظمة الأمر. وكانت الاستجابة على الفور، فلم يقل: فبلعت الأرض ماءها وأمسكت السماء، فإن كل ذلك يدل عليه قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ} وقد بنى الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل تعظيمًا للأمر والقائل والمنادي وللإيجاز. جاء في (روح المعاني) أنه لم يقل :"(قيل يا أرض ابلعي) فبلعت (و يا سماء أقلعي) فأقلعت؛ لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة" (11).10- قال بعد قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ}: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي الأمر الذي أراده ربنا بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} وهو نجاة من نجا وإهلاك من هلك. وبنى الفعل للمجهول تعظيمًا لمن قضى الأمر. وهو في كل ذلك أمر واحد وفاعل واحد. 11- ثم قال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ولم يذكر الفاعل لأنه معلوم وهو السفينة. ولم يبين الفعل للمجهول؛ وذلك لأن الجريان كان منسوبًا إلى السفينة وذلك قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} فناسب أن يكون الاستواء منسوبًا إليها أيضًا. لقد قال ذلك بعد قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} فإن السفينة لا تستوي حتى يغيض الماء. وكان استواؤها بعد أن قضي الأمر، أي بعد أن انتهت المهمة فنجا كل من كان راكبًا فيها وهلك كل من حكم عليه بالهلاك فلم يبق منهم أحد يؤذي مؤمنًا، وهو أنسب وقت لاستوائها. إن قوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} يدل على النجاة والأمان فناسب الاستواء لينزل ركاب السفينة وهو أمنون. جاء في (رو المعاني): "واختير (استوت) على (سُوِّيت) أي أقرّت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتبارًا لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوبًا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله: {} مع أن (استوت) أخص من (سويت)" (12). 12- قال: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فبنى الفعل للمجهول أخرًا عندما بعدوا وهلكوا كما بناه أولًا عند الأمر بنزول أمره لعذاب الظالمين. لقد بنى الفعل للمجهول ولم يذكر فاعلًا معينًا وذلك ليشمل كل قائل من الملائكة وكل عبد صالح. جاء في (البحر المحيط): "والظاهر أن قوله: {وَقِيلَ بُعْدًا} من قول الله تعالى كالأفعال السابقة. وقيل: من قول نوح والمؤمنين. ويحتمل أن يكون من قول الملائكة" (13). وجاء في (الكشاف): "{وَقِيلَ بُعْدًا} ... إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك ... ومجيء إخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء" (14). 13- وقال: {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فوصفهم بالظلم لأنه وصفهم بالظلم أولًا فقال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} جاء في (فتح التقدير): "ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك وللإيمان إلى قوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}" (15). 14- وقال: {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ولم يقل: (بعدًا لهم) فذكر الوصف الذي استحق به القوم العقوبة. وهو تحذير لكل ظالم. 15- وقال: {بُعْدًا} بالمصدر ولم يأت بالفعل للدلالة على الحدث المطلق غير المقيد بزمن أو بفاعل وللدلالة على الثبوت. جاء في (روح المعاني): "واختير المصدر أعني (بعدًا) على (ليبعد القوم) طلبًا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة ... مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام. وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث إن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم ... وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل: فذلك أنه قدم النداء على الأمر ... ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرًا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولًا ... ثم جعل قوله سبحانه: {وَغِيضَ الْمَاءُ} تابعًا لأمر الأرض والسماء ... ثم إنه تعالى أتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة وهو قوله جلت عظمته: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود" (16). وجاء في (الإتقان): أن "جملة معطوف بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة من الابتداء بالأهم الذي هو انحسار الماء عن الأرض المتوقف عليه غاية مطلوب أهل السفينة من الإطلاق من سجنها، ثم انقطاع مادة السماء المتوقف عليه تمام ذلك من دفع أذاه بعد الخروج ومنع اختلاف ما كان بالأرض، ثم الإخبار بذهاب الماء بعد انقطاع المادتين الذي هو متأخر عنه قطعًا، ثم بقضاء الأمر الذي هو هلاك من قدر هلاكه، ونجاه من سبق نجاته، وأخر عما قبله لأن علم ذلك لأهل السفينة بعد خروجهم منها وخروجهم موقوف على ما تقدم. ثم أخبر باستواء السفينة واستقرارها المفيد ذهاب الخوف وحصول الأمن من الاضطراب، ثم ختم بالدعاء على الظالمين لإفادة أن الغرق وإن عم الأرض فلم يشمل إلا من استحق العذاب لظلمه" (17). ثم إن الآية في غاية الإيجاز فلم يذكر إلا ما لا بد من ذكره. ومن مظاهر الإيجاز فيها: 1- أنه قال: (وقيل) فبنى الفعل للمجهول وحذف الفاعل وذلك للتعظيم كما أسلفنا. 2- وقال: (يا أرض) ولم يقل: (يا أيتها الأرض). وقوله: (يا أرض) أوجز كما هو معلوم. 3- وقال: (ابلعي) ولم يقل: (ابتلعي)، وابلعي أوجز. 4- وقال: (ماءك) ولم يقل: (مياهك). 5- وقال: (يا سماء) ولم يقل: ( يا أيتها السماء). 6- وقال: (أقلعي) ولم يذكر متعلقًا. 7- وقال: (وغيض الماء) فبنى الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل. 8- وقال: (وغيض) الثلاثي، ولم يقل: (غيّض) الرباعي. جاء في (روح المعاني): "واختير (غيض) على (غيّض) المشدد لكونه أخضر" (18). 9- وقال: (وقضي الأمر) فبنى الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل. 10- وقال: (وقضي الأمر) فعبر عن كل ما حدث بـ (الأمر) وهو النجاة والغرق وما أراده ربنا. 11- وقال: (واستوت على الجودي) فلم يذكر الفاعل وإنما ستره. 12- وقال: (وقيل بعدًا) فبنى الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل. 13- وقال: (بعدًا) فذكر المصدر ولم يذكر الفعل الذي يقتضي زمنًا وفاعلًا. وغير ذلك. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 164 إلى ص 174. (1) الاتقان 3/218. (2) الاتقان 3/217. (3) الكشاف 2/99. (4) روح المعاني 12/65. (5) روح المعاني 12/65. (6) روح المعاني 12/65 – 66. (7) روح المعاني 12/65. (8) روح المعاني 12/61. (9) روح المعاني 12/66. (10) ن. م. (11) ن. م. (12) روح المعاني 12/66. (13) البحر المحيط 5/229. (14) الكشاف 2/99. (15) فتح القدير 2/477. (16) روح المعاني 12/66 – 67. (17) الإتقان 3/395. (18) روح المعاني 12/66.