عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴿٤٣﴾    [هود   آية:٤٣]
{قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43]. رفض الابن دعوة أبيه للركوب في سفينة النجاة وأثر أن ينجو بنفسه وحيدًا على أن يكون مع أسرته ومع الجامعة المؤمنة. ولم يكرر أبوه الدعوة له وإنما قال: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} فنفى العاصم من أمر الله على سبيل الاستغراق في مثل هذا اليوم. وذكر اليوم مع أنه لا عاصم من أمر الله على الإطلاق لا في هذا اليوم ولا في غيره؛ لأن هذا اليوم ليس كسائر الأيام، فإنه لا ينفع فيه اتخاذ الأسباب. فأنت في سائر الأيام تتخذ الأسباب للنجاة وتفر من قدر الله إلى قدر الله، وللوصول إلى سائر الغايات. فالمرض مثلًا من أمر الله، والدواء من أمر الله وهو خالقه. والدواء يرفع المرض وكلاهما من أمر الله. أما في هذا اليوم فلا ينفع شيء من ذلك ولا يعصم من أمر الله شيء إلا من رحم. وقال: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ولم يقل: (من الماء) للإشارة إلى أن هذا الماء ليس كسائر المياه التي تنجو منها بالالتجاء إلى جبل مرتفع أو نحو ذلك؛ لأن هذا أمر الله الذي أنزله على الذين ظلموا من عبادة ولا يعصم شيء منه. جاء في (روح المعاني): "وزاد (اليوم) للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية. وعبر عن (الماء) في محل إضماره بـ (أمر الله) أي عذابه الذي أشير إليه بقوله سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} تفخيمًا لشأنه وتهويلًا لأمره وتنبيهًا لابنه على خطئه في تسميته ماء وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة، وتعليلًا للنفي المذكور، فإن أمر الله سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد" (1). وقوله: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} يحتمل معاني: منها: أنه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا الراحم وهو الله و(من رحم) يعني به الله. كما يحتمل أن يكون المعنى أنه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله فإنه يعصمه. والمعنى: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا المرحوم. وذكروا أمورًا غير ذلك. جاء في (الكشاف): "{إِلَّا مَنْ رَحِمَ} إلا الراحم وهو الله تعالى. أو لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله، أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين وكان لهم غفورًا رحيمًا في قوله: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ... يعني السفينة. وقيل: ( لا عاصم) بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحمه الله، كقوله: ماء دافق، وعيشة راضية. وقيل: (إلا من رحم) استثناء منقطع، وكأنه قيل: ولكن من رحمة الله فهو المعصوم" (2). وجاء في (حاشية ابن المنير على الكشاف): "قال أحمد: والاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم، ولا معصوم إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والأخران من غير الجنس. وزاد الزمخشري خامسًا وهو: لا عاصم إلا مرحوم على أنه من الجنس بتأويل حذف المضاف، تقديره: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم" (3). وقوله: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} أشار إلى غرقه وغرق الأخرين. ولو قال: (فغرق) لأفاد غرقه ولم يفد غرق الأخرين. ثم إن قولنا: (غرق) يدل على أنه فرق بنفسه، أما قوله: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} فيدل على أن جهة ما أغرقته وأغرقت الأخرين، وأن ذلك إنما حصل بفعل فاعل قصد إلى إغراقه وإغراق الأخرين. وفيه إشارة إلى العقوبة التي أوعدوا بها. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 162 إلى ص 164. (1) روح المعاني 12/60. (2) الكشاف 2/99. (3) حاشية ابن المنير على الكشاف 2/99.