عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿٤٠﴾ ﴾ [هود آية:٤٠]
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}
قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ} ولم يقل (أتى) ذلك أن (جاء) يستعمله القرآن لما فيه مشقة وصعوبة، أو لما هو أصعب مما يستعمله له (أتى) (1)، ولما كان في هذا المجيء مشقة وهو العذاب استعمل (جاء).
ولذا حيث ورد (أمرنا) بمعنى العذاب والعقوبات استعمل له (جاء) وذلك نحو قوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} [هود: 58].
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} [هود: 66].
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82].
وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} [هود: 94].
وقد تقول: ولكنه قال: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24] فقال: {أَتَاهَا أَمْرُنَا}.
فتقول: إن ذلك ليس في عقوبات الأقوام وإنما هو في الكلام على الحياة الدنيا وزوالها ولا يتعلق ذلك بقوم من الأقوام.
وقد تكلمنا على الفرق بين (جاء وأتى) في كتابنا(لمسات بيانية) (2) فلا نعيد القول فيه.
{وَفَارَ التَّنُّورُ}
قيل: هو تنور الخبز وجعل فوران الماء منه علامة على بداية الطوفان.
وقيل: هو مجاز عن شدة الأمر، كما يقال: (حمي الوطيس)، ولا مانع أن يكون الأمران مرادين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 154 إلى ص 155.
(1) انظر المفردات للراغب الأصبهاني (أتى) و(جاء).
(2) انظر كتابنا (لمسات بيانية) صفحة 113 وما بعدها.
{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ}
قال: (قلنا) بإسناد القول إلى نفسه نجاة المؤمنين.
وقال في هلاك الكافرين: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ببناء فعل القول للمجهول: (قيل).
وأظنك تحس الفرق بين رعايته للمؤمنين وتوجيهه سبحانه لنجاتهم في قوله: (قلنا)، وبين هلاك الكافرين وإبعادهم في قوله: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44].
وقد بدأ بذكر حمل الحيوانات في قوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} لأنها قوام حياة الإنسان وسبب بقائه، وإلا فماذا يأكل وكيف يعيش؟
ثم ذكر حمل الأهل بعد ذلك فقال: (وأهلك) لأن الأقربين أولى بالمعروف كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6].
ألا ترى كيف نادى نوح ابنه ليركب ولم يناد غيره من الكافرين فقال: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42].
وكيف نادى نوح ربه فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45].
ثم ذكر بعد الأهل من أمن.
واستثنى من أهله (من سبق عليه القول) أي من حق عليه العذاب لعدم إيمانه.
وهو يستعمل نحو هذا التعبير في العذاب. ونحوه قوله: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} [الأسراء: 16]، و{حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص: 64].
وقد ذكرنا ذلك في تفسيرنا لسورة (يس) في قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] (1).
جاء في (روح المعاني) في قوله:{إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}:
"وجيء بـ (على) لكون السابق ضارًا لهم. كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}" (2).
وأما التشابه والاختلاف بين هذه الآية وما جاء في سورة المؤمنون وهو قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]، فقد ذكرناه في كتابنا (أسئلة بيانية) فلا نعيد القول فيه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 155 إلى ص 156.
(1) انظر كتابنا (على طريق التفسير البياني) 2/25 وما بعدها.
(2) روح المعاني 12/55.