عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴿٣٨﴾ ﴾ [هود آية:٣٨]
- ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴿٣٩﴾ ﴾ [هود آية:٣٩]
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 38 - 39]
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} حكاية حال ماضية (1) لاستحضاره صورته وهو يصنع الفلك، فكأنك تشاهده وهو يعمل.
وقيل: تقديره: وأخذ يصنع الفلك، أو يطفق يصنع الفلك، أو أقبل يصنعها (2) ونحوها من أفعال الشروع.
وعدم التقدير أولى؛ لأن قولنا: (أخذ يعمل) أو (طفق يعمل) ونحوه يحيلنا على بداية العمل، أي بدأ يعمل.
وأما قوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} فإنه يذكر الحال المستمرة للعمل وليست بداية العمل. وهو نظير قولك: (أخذ محمود يقرأ) وقولك: (محمود يقرأ) فالجملة الأولى تشير إلى بداية القراءة، وأما الثانية فهي تدل على أنه في داخل الحدث مستمر على فعله. ولذا تخريجه على حكاية الحال أولى؛ لأنه ينقل المخاطب إلى المشهد ونوح منهمك في العمل.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 149 إلى ص 149.
(1) الكشاف 2/97، وانظر فتح القدير 2/474.
(2) انظر روح المعاني 12/50، فتح القدير 2/474.
{وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}
قال: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ} ولم يقل: (وكلما مر به ملأ) وذلك يدل على أنه ليس يصنع في طريق المارة، بل هو متنح عنهم في مكان أخفض من طريق المارة معه الألواح و معه أدواته. يدل على ذلك قوله: (عليه)، و(على) للاستعلاء.
ولم يقل: (به) التي تفيد الإلصاق كما قال: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30] أي في الطريق الذي هم فيه أو المكان الذي هم فيه.
وجواب (كلما) يحتمل أن يكون {سَخِرُوا مِنْهُ} فيكون المعنى: كما مر الملأ عليه سخروا. فالسخرية مستمرة عند كل مرور. وتكون جملة {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} استئنافية.
كما يحتمل أن يكون جواب (كلما): {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا}، وجملة {سَخِرُوا مِنْهُ} صفة للملأ. فيكون المعنى: (كلما مر عليه ملأ ساخر قال إن تسخروا منا). فهو لا يترك ساخرًا إلا رد عليه، وكلما سخر أجابه نوح بقوله: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا ....}.
وعلى الاحتمال الأول يكون المعنى: (كلما مر عليه ملأ سخروا منه)، ولا يدل ذلك على أنه يجيبهم في كل مرة، بل قد يجيبهم أحيانًا وقد يتركهم أحيانًا، أو هو يجيبهم دائمًا. لكن لا يدل ذلك على أن الإجابة كانت في كل مرة حتمًا.
وأما على الاحتمال الثاني: فأنه يدل على أنه كلما مر عليه ملأ ساخر رد عليه ولا يترك سخرية من دون رد. ولكن لا يدل على أن كل ملأ يمر عليه يسخر منه، فقد يسخر منه ملأ وقد لا يسخر أخر.
ولو قال: (وكلما مر عليه ملأ من قومه يسخرون منه قال) لكان الجواب (قال) حتمًا، ولكان المعنى أنه لا يترك ملا يسخر إلا رد عليه.
جاء في (الكشاف): "فإن قلت: فما جواب كلما؟
قلت: أنت بين أمرين:
إما أن تجعل (سخروا) جوابًا، و(قال) استئنافًا على تقدير سؤال سائل.
أو تجعل (سخروا) بدلًا من (مر) أو صفة لملأ، و(قال) جوابًا" (1).
وجاء في (روح المعاني): "و(كل) منصوب على الظرفية، و(ما) مصدرية وقتية، أي كل وقت مرور، والعامل فيه جوابه وهو (سخروا)، وقوله سبحانه: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} استئناف بياني، كأن سائلًا سأل فقال: فما صنع نوح عليه السلام عند بلوغهم منه هذا المبلغ؟
فقيل: قال {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} لهذا العمل ومباشرة أسباب الخلاص ومن العذاب {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} لما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ...
هذا وجوز أن يكون عامل (كلما): (قال) وهو الجواب، وجملة (سخروا) صفة لملأ أو بدل من (مر) بدل اشتمال ... ويلزم على هذا التجويز استمرار هذا القول منه عليه السلام وهو ظاهر.
وعلى الإعراب الأول قيل: لا استمرار، وإنما أجابهم به في بعض المرات" (2).
وقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} ولم يقل: (إن سخرتم منا) للدلالة على استمرار السخرية، فهم دائمون عليها. وهو مناسب لقوله: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ} بذكر (كلما) التي تفيد الاستمرار.
وقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} ولم يقل: (إن تسخروا مني) مع أن قال: {سَخِرُوا مِنْهُ} إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بالسخرية منه، بل يسخرون من المؤمنين أيضًا.
فهم يسخرون منه إذا رأوه يصنع الفلك، ويسخرون من المؤمنين إذا رأوهم، ولذلك كان جواب الشرط بالجمع أيضًا وهو قوله: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} ولم يقل: (فإني أسخر منكم).
جاء في (روح المعاني) :"وجمع الضمير في (مِنَّا) إما لأن سخريتهم منه عليه السلام سخرية من المؤمنين أيضًا، أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضًا إلا أنه أكتفى بذكر سخريتهم منه عليه السلام ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله: {نَسْخَرُ مِنْكُمْ}" (3).
وقال: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} ولم يقل: (سنسخر منكم) أو (سوف نسخر منكم)، وذلك أن الفعل (نسخر) يحتمل الحال والاستقبال، وقوله: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} يحتمل أنهم يسخرون من الكافرين في الحال لعدم معرفتهم بما سيحيق بهم وهو لا هون عابثون ساخرين من الأخرين، وهؤلاء يستحقون أن يسخر منهم في هذه الحال.
وأنهم يسخرون منهم في المستقبل أيضًا عندما يحل عليهم العذاب فيأخذهم الطوفان فيغرقهم أجمعين.
ويسخرون منهم في الأخرة وهم في السعير كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34].
فقوله تعالى: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} أفاد السخرية منهم في الحال وفي الاستقبال عند الغرق وعند حلول العذاب المقيم وهو عذاب الأخرة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 150 إلى ص 153.
(1) الكشاف 2/98.
(2) روح المعاني 12/51.
(3) روح المعاني 12/51.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ} يحتمل أن تكون (من) أسمًا موصولًا، أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب الذي يذله ويفضحه.
كما يحتمل أن تكون (من) اسم استفهام مبتدأ، وجملة (يأتيه) خبر، والجملة مفعول (يعلم) والفعل معلق سدت الجملة مسد مفعوليه (1).
وقوله: {عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يعني عذاب الدنيا وهو الغرق.
ومعنى (يخزيه) يفضحه ويذله.
وقوله: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} يعني عذاب الأخرة، كما قال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 25].
ومعنى (يحل عليه): يجب عليه ويلزمه لزومًا لا ينفك عنه، ومعنى (مقيم) : ثابت لا يتحول (2).
ووصف العذاب أنه يخزيهم مجانسة لأفعالهم التي كانوا يسترذلون بها المؤمنين ويسخرون منهم، فأتى بالعذاب الذي يخزيهم ويذلهم.
وقال أولًا: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ} ثم قال: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} فذكر الإتيان أولًا. والإتيان لا يستلزم الدوام، فقد يأتيهم ثم ينصرف عنهم. ولئلا يخطر في الذهن ذلك أتبعه بقوله: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي يجب عليهم وجوبًا لا ينفك عنهم ولا يرحل أو يتحول، أعاذنا الله منه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 153 إلى ص 153.
(1) انظر البحر المحيط 5/222.
(2) انظر الكشاف 2/98، روح المعاني 12/51.