عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ﴿٣٧﴾    [هود   آية:٣٧]
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]. بدأ بما فيه النجاة وهو صنع الفلك وقدمه على مصير الظالمين وهو الإغراق. وهذا هو الكثير في القرآن في قصة نوح وغيرها، يقدم نجاة المؤمنين على إهلاك الكافرين وذلك نحو قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} [الأعراف: 64] فقدم نجاة المؤمنين على إغراق الذين كذبوا. ونحوه قوله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} [يونس: 73]. وقوله: { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا … وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } [هود: 66 - 67]. وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94] وغيرها. ومعنى (بأعيننا): برعايتنا وحفظنا، وجاءت بالجمع للدلالة على تكثير الحفظ وديمومته كما قيل. جاء في (البحر المحيط): (بأعيننا) "بمرأى منا وكلاءة وحفظ ... وجمعت هنا لتكثير الكلاءة والحفظ وديمومتها" (1). وجاء في (روح المعاني): "الأعين حقيقة في الجارحة وهي جارية مجرى التمثيل، كأن لله سبحانه أعينًا تكلؤه من تعدي الكفرة ومن الزيغ في الصنعة، والجمع للمبالغة ... وقيل: المراد من أعيننا ملائكتنا الذين جعلناهم عيونًا على مواضع حفظك ومعونتك" (2). (ووحينا) أي تعليمنا لك تصنعها" (3). ولما قدم ما فيه نجاتهم وهو الفلك قدم ما يدل على عناية وحفظه لهم، وما يدفع الشر عن الفلك، وحفظها مما يمنعه من العمل في إتمامها وذلك قوله: {بِأَعْيُنِنَا} فقدم كل ما يتعلق بالنجاة والحفظ، من صنع الفلك وحفظ الله ورعايته. ثم قال: (ووحينا) أي تعليمنا لك كيف تصنعها. وهذا يقتضي مراقبة ما يعمل ثم توجيهه إلى أن يستكمل صنعها، وذلك يقتضي أيضًا تقديم قوله: {بِأَعْيُنِنَا} على قوله: {وَوَحْيِنَا}. ثم إن تعليمه ووحيه إنما هو لغرض النجاة فقدم ما يتعلق بالحفظ والنجاة. جاء في (تفسير الرازي): "إن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين: أحدهما: أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل. والثاني: أن يكون عالمًا بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه. وقوله: {وَوَحْيِنَا} إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه كيف ينغي عمل السفينة" (4). والأول متعلق بقوله: {بِأَعْيُنِنَا}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 146 إلى ص 148. (1) البحر المحيط 5/220. (2) روح المعاني 12/49. (3) انظر تفسير الرازي 6/345، روح المعاني 12/49. (4) تفسير الرازي 6/344 – 345. {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي لا تراجعني فيهم فتطلب إمهالهم وتأخير العذاب عنهم (1). وقال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} فذكر صفتهم، ولم يقل: (ولا تخاطبني فيهم) ذلك أنه ذكر الصفة التي تستدعي إهلاكهم وهي الظلم. وهذه الصفة توجب عقوبتهم لا أن تستشفع فيهم. فناسب ذكر صفتهم التي تستدعي عقوبتهم وعدم مراجعة ربه في إمهالهم. جاء في (روح المعاني): "{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم. وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعني فيهم" (2). {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} قال: {مُغْرَقُونَ} بالاسم، ولم يقل: (سأغرقهم) للدلالة على الثبوت، فكأنهم أغرقوا وانتهى الأمر. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 148 إلى ص 149. (1) انظر فتح القدير 2/474، روح المعاني 12/50. (2) روح المعاني 12/50.