عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿٣٤﴾ ﴾ [هود آية:٣٤]
{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 34]
يعني: إذا نصحتكم وأنا أريد لكم النصح لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد غير ذلك، فإن الإنسان قد ينصح شخصًا وهو- أي الشخص الناصح – لا يرغب في نصحه ولا يريد ذلك، ولكن قد ينصحه لسبب من الأسباب، فإنه في هذه الحال لا يبالغ في النصح ولا يهتم به، ولكنه إذا أراد النصح وهو حريص على ذلك فلا شك أنه سيبالغ في النصح بكل ما أوتي من مقدره.
فقال لهم نوح: إنه لا ينفعكم نصحي وإن أردت ذلك، أي مع إرادتي لنصحكم ورغبتي فيه وشدة اهتمامي به إن كان الله يريد أن يغويكم.
وهذا بيان لعظيم قدرة الله، فإنه إن نصحهم بهذه الحال وهذا الاهتمام وكان الله يريد أن يغويهم لم ينفع نصحه لهم. فمجرد إرادة الله الإغواء تمنع من النفع.
فهو لم يقل: (لا ينفعكم نصحي وإن بالغت في ذلك إن كان الله أغواكم) فيجعل فعله بقابل الإغواء، وإنما قال: (لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم) فجعل عدم النفع بقابل إرادة الإغواء، فمجرد الإرادة تمنع من الانتفاع فكيف إذا فعل؟
جاء في (روح المعاني): "وإنما اقتصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل: (إن كان الله يغويكم) مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله، حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم نفعًا عند مجرد إرادة الله تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم" (1).
قد تقول: لقد قال في الأعراف: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62].
فذكر أنه ينصح لهم، ولم يقل كما قال ههنا: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}.
فلم ذلك؟
فنقول: إن السياق في كل منهما مختلف.
فإن سياق في الأعراف كان بيان أول الدعوة، وقد ذكر مهمته لقومه وهي أنه رسول من رب العالمين يبلغهم رسالات ربه وينصح لهم.
وأما في هود فالسياق مختلف، فإنه قال ما قال بعدما تطاول الزمن وكثر الجدال بينه وبين الملأ من قومه، وبعدما أوصدوا الباب دونه وطلبوا منه أن يأتيهم بما يعدهم به. فقال لهم: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} فقد قال لهم ذلك بعد أن لم ينفعهم نصحه مع حرصه على ذلك وتطاول الزمن فناسب أن يقول لهم ذلك. ولا يناسب أن يقول هذا لهم في أول الدعوة وعند أول التبليغ.
فكان كل تعبير أنسب في مكانه.
لقد قال في المؤمنين الذين ازدروهم {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}
وقال للملأ الذين كفروا: {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
فقوله: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} بمقابل {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
وقوله: {رَبِّهِمْ} بمقابل {رَبُّكُمْ}
والتعبيران إنما هما في الرجوع إلى الله ولقائه.
ومعنى قوله: {هُوَ رَبُّكُمْ} أي ليس لكم رب غيره.
وبذا يكون قد دعاهم إلى توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية.
فتوحيد الألوهية دعاهم إليه بقوله: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}
فتوحيد الربوبية هو قوله: {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
فقوله: {هُوَ رَبُّكُمْ} يعني ليس لكم رب غيره.
وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يعني أنكم ترجعون إليه حصرًا لا إلى غيره.
غير أن ثمة فرقًا بين اللقاءين، فإن المؤمنين ملاقوه وهم مطيعون له مستجيبون لأمره.
وأنتم ملاقوه وأنتم كافرون به عاصون لأمره.
لقد قال في المؤمنين: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}.
ولم يقل في الكافرين كذلك، وإنما قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
ولعل سبب هذا الاختلاف أو من أسبابه أن القرآن يستعمل التعبير {مُلَاقُو رَبِّهِمْ} ونحوه في المؤمنين ولم يستعمله في الكافرين، واستعمله في عموم الإنسان مرة واحدة.
قال تعالى فيمن أوتي كتابه بيمينه: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:20 - 21].
وقال في الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46].
وقال في جنود طالوت الصابرين: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }[البقرة: 249].
وقال ربنا مخاطبًا المؤمنين: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223].
وقال ربنا مخاطبًا الإنسان على العموم: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6].
ولم يستعمل نحو هذا في الكافرين.
قد تقول: ولكنه قال في اليهود: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8].
فنقول: إنه لم يقل إنهم ملاقو الموت ولكن الموت هو الذي ملاقيهم. ونحن قلنا فيمن يلاقونه لا فيما يلاقيهم.
ومن جهة أخرى أنه لم يستعمل ذلك مع الله وإنما مع الموت، ونحن قلنا ذلك في لقاء الرب.
فاختلف التعبيران والسياقان.
وأما {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فهي عامة في المؤمن وغيره، وأكثر ما تستعمل للعموم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 138 إلى ص 141.
(1) روح المعاني 12/47.