عرض وقفة أسرار بلاغية
{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 33]
فقال لهم: إن الأمر ليس إليّ، وإن الأمر الذي أعدكم به لا يستطيع بشر أن يفعله أو يأتي به، إنما أمره إلى الله وهو الذي يأتيكم به إن شاء.
وجاء بـ (إنما) للدلالة على أن ذلك بيد الله حصرًا لا يقدر على ذلك غيره.
وقال: {يَأْتِيكُمْ بِهِ} ولم يقل: (يأتي به) فيجعله عامًا؛ ذلك لأنهم قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} فأردوا ذلك لأنفسهم، فقال لهم: {يَأْتِيكُمْ بِهِ} فيصيبكم أنتم.
وقال: {إِنْ شَاءَ} فجعل ذلك مرتبطًا بمشيئته. وهذا تأكيد لعدم علمه وعدم قدرته. فلم يقل: (إنه سيأتيكم) وإنما أعاد ذلك على مشيئة الله، ونسب الإتيان به إلى الله.
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} "بدفع العذاب أو الهرب منه" (1).
وقد أكد عدم إعجازهم بالباء الزائدة.
وجاء باسم بالفاعل {بِمُعْجِزِينَ} ولم يقل: (تعجزون) للدلالة على ذلك على جهة الدوام والثبوت. فهم لا يعجزونه أبدًا على كل حال. وقد مر بيان نحو ذلك في آية سابقة.
وقد أطلق نفي الإعجاز من كل متعلق لا في مكان دون مكان، ولا في زمان دون زمان، ولا غير ذلك من المتعلقات، بل إن ذلك على جهة الإطلاق والدوام.
وفي الآية أكثر من تهديد وتخويف:
1- فقد قال: {إِنَّمَا} للدلالة على القصر، وأن الذين توعدون به أمر عظيم لا يستطيع أن يفعله غير الله.
2- وقال: {يَأْتِيكُمْ} فعداه إلى ضميرهم للدلالة على أن ذلك إنما يأتيهم هم حصرًا، ولم يقل: (يأتي) على العموم فيصيبهم أو لا يصيبهم.
3- قال: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} فقدم الجار والمجرور المتصل بضمير العذاب على الفاعل وهو الله.
ولم يقل: (إنما يأتيكم الله به) وذلك لأكثر من سبب:
منها: الدلالة على عظم ما سيأتيهم فلذلك قدمه.
ومنها: أن الكلام في سياق الآيات فيما بعد على ما سيأتيهم والتفصيل فيه.
والسبب الآخر: أن ذلك ما يقتضيه المعنى، ذلك أن المعنى (ما يأتيكم به إلا به إلا الله)، فـ (إنما) أداة حصر وهو من باب قصر الفعل غلى الفاعل.
ولو قال (إنما يأتيكم الله به) لكان المعنى (ما يأتيكم الله إلا به) فيكون من باب قصر فعل الفاعل على شيء واحد، غير مراد ولا يصح، إذ سيكون المعنى: لا يأتيكم الله إلا بهذا الشيء، وهو لا يصح إذ لربما يأتيهم من أمور العذاب والآيات أمور أخرى لا يعلمها إلا الله.
4- أسند ذلك إلى لفظ الجلالة تصريحًا، وفيه من التهديد والتخويف ما فيه، فلم يسند إلى وصف دون وصف، بل إلى الاسم الجامع لكل الأوصاف.
5- وعلق ذلك بمشيئته فقال: {إِنْ شَاءَ} لأن ذلك عائد إليه حصرًا، ولو شاء الخلق كلهم أن يفعلوا ولم يشأ الله ذلك لما استطاعوا.
وهذا دال على عظم ما سيصيبهم من الموعود.
جاء في (روح المعاني): "{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} أي إن ذلك ليس إلى ولا مما هو داخل تحت قدرتي، وإنما هو لله عز وجل الذي كفرتم به وعصيتم أمره يأتيكم به عاجلاً أو أجلا إن تعلقت به مشيئته التابعة للحكمة.
وفيه كما قيل ما لا يخفى من تهويل الموعد، فكأنه قيل: الإتيان به خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله تعالى.
وفي الإتيان بالاسم الجليل الجامع تأكيد لذلك التهويل" (2).
6- ثم قال: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ }وذلك للدلالة على ضعفهم وعجزهم على جهة الإطلاق والثبات الدوام.
فهو دال على عظم ما يوعدون به، وعلى عجز من يقع عليهم. وفي ذلك تهديد وتحذير عظيمان للذين يفقهون.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 135 إلى ص 138.
(1) تفسير البيضاوي 295.
(2) روح المعاني 12/45.