عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿٣١﴾ ﴾ [هود آية:٣١]
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ }[هود: 31]
ثم ذكر أنه ليس عنده مغريات تدعو إلى اتباعه بسببها، فهو لا يملك المال الكثير حتى يتبعه طلاب المال. والناس إنما يستهويهم المال أكثر ما يستهويهم كما قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20].
وهو لا يعلم الغيب، ولا يظن أحد أني لكوني رسول الله أعلم الغيب فأنا لا أعلم الغيب، ولذا لا أستطيع أن أصنف الناس فأعلم المؤمن من مدعي الإيمان وإنما علم ذلك إلى الله، ولا أستطيع أن أجيب عما يحصل في المستقبل، ولا من يريد أمرًا من أمور الغيب يجد جوابه عندي.
ولا أقول إني ملك وإنما أنا بشر كما تقولون.
فإذا كان الفضل تحسبونه في هذه الأشياء فما لي عليكم من فضل.
ثم إني لا أقول للذين تزدرونهم لن يؤتيهم الله خيرًا، وهذا توكيد لعدم علم الغيب. ثم أكد ذلك بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} فالله هو الذي يعلم بما في أنفسهم، وأما أنا فلا أعلم الغيب.
فهو لا يملك - كما هو واضح من كلامه - مغريات تدعو الفقير أو الغني إلى اتباعه بسببها، وإنما هي دعوه إلى عبادة الله، والله هو الذي يجزي عن ذلك وليس إليه شيء منه.
جاء في (الكشاف): "لا أقول: عندي خزائن الله، ولا أقول: أنا أعلم الغيب، ومعناه: لا أقول لكم عندي خزائن الله فأدعي فضلًا عليكم في الغنى حتى تجحدوا فضلي بقولكم {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}.
ولا أدعي علم الغيب حتى تنسوني إلى الكذب والافتراء او حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم.
{وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} حتى تقولوا لي: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيرًا في الدنيا والأخرة لهوانهم عليه كما تقولون مساعدة لكم ونزولًا على هواكم" (1).
ومن الملاحظ في هذا التعبير:
1- إنه قال: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ} فجاء بالفعل المضارع (أقول) ونفاه بـ (لا)، ولم يقل: (ما أقول) أو (ما قلت) أو (لم أقل) للدلالة على الاستمرار في عدم القول. فهو لا يقوله في حال من الأحوال.
فهو لم ينفه بـ (ما) فلم يقل: (ما أقول) فيكون النفي للحال فقط.
كما هو لم يقل: (ما قلت) أو (لم أقل) فيكون النفي في الماضي، وقد يقوله في وقت آخر. وإنما نفاه بـ (لا) التي تستعمل لجميع الأزمنة.
2- وقال: {خَزَائِنُ اللَّهِ} بإضافة الخزائن إلى الله ولم يقل: (خزائن لله) فتكون الخزائن نكرة، وقد تكون الخزائن قليلة أو كثيرة، فلو كانت ثلاثًا صح ذلك. ولكنه قال: {خَزَائِنُ اللَّهِ} فشملت جميع خزائنه، وذلك أدعى إلى اتباعه لو كانت عنده.
3- قال هنا: {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}
وقال في الأنعام على لسان سيدنا محمد: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] فكرر (لكم) ذلك أن المقام في هود مقام التلطف بقومه، فقد قال قبلها: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ... وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ... وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ ... وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ}"فتأمل جليل ملاطفته عليه السلام لهم، وما يُفهم من كلامه من عظيم الإشفاق من حالهم، وإرادته ما به نجاتهم من العذاب، ومن أخذه بمرتكباتهم. فهذا كله استلطاف في الدعاء لا يناسب تكرار كلمة تفهم تعنيفًا أو توبيخًا، والتأكد والتكرار يفهم ذلك ويردان حيث يقصد" (2).
أما السياق في الأنعام فهو في مقام التبكيت والتعنيف، فقد قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 46 - 47].
وقد يكرر ضمير الخطاب في نحو هذا المقام "فتكرر فيها قوله: (لكم) تأكيدًا يفهم التعنيف ويناسب التوبيخ والتقريع" (3).
4- قال: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} فقال: (تزدري) بالفعل المضارع، ولم يقل (أزدرت) للدلالة على الاستمرار، قيل: أو لحكاية الحال (4).
5- قال: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} فحذف العائد، والأصل (تزدريهم)، فحذف العائد إكرامًا لهم لئلا ينال الازدراء ضميرهم صراحة.
ونحو ذلك يكون في كلامنا، فإذا أردنا أن نكرم أحدًا فلا نعدي إليه فعلًا فيه إهانة، فلا نقول مثلًا: (أنا ما شتمت فلانًا) أو (أنا لم أضربه) وإنما نحذف المفعول إكرامًا له.
فكما نذكر المفعول إكرامًا وذلك كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18] قد يحذف المفعول إكرامًا أو لغير ذلك من الأغراض.
6- وقال: {لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} فأسند الازدراء إلى الأعين ولم يقل (للذين تزدرونهم) فيسند الازدراء إليهم. وذلك أنه أراد إكرامهم أيضًا، فكأنه قال: (أنتم ترون ظواهرهم ولم تخبروا حقيقتهم)، وهذا الازدراء إنما وقع من ظاهر الرؤية، والمرأى قد لا يدل على الحقيقة، فكم من رجل تزدريه عيناك وهو في الحقيقة رجل أي رجل.
ثم إن هذا التعبير مناسب لقوله: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} فعلقوا ذلك بالرؤية، والرؤية إنما تكون بالعين، فناسب أن يقول: {تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} فكأنه قال: إنما حكمتم بالظواهر ولم تدركوا الحقائق.
7- قال: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} فجاء بـ (لن) الدالة على الاستقبال، وهذا الاستقبال عام قد يكون في الدنيا وقد يكون في الأخرة وقد يكون فيهما.
فإن تكن تزدريهم الأعين الأن فلربما يتغير الحال في المستقبل، فقد يصبح الفقير غنيًا، وقد يكون ممن يملأ العين.
وقد يكون ذلك في الأخرة، وقد يكون فيهما، وكل ذلك استقبال، فجاء بحرف الاستقبال.
8- وقال: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} فجاء بضمير الغيبة ولم يقل: (لن يؤتيكم الله خيرًا) بضمير الخطاب. وكان الأصل أن يقول- كما هو ظاهر السياق - (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لم يؤتيكم الله خيرًا). قيل: وقد عدل عن ذلك إلى قوله: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} لأن اللام ليست للتبليغ وإنما هي لبيان العلة أي لأجلهم.
جاء في (روح المعاني): "واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد: (يؤتيكم)" (5).
وقد يكون لغرض آخر لطيف وهو أن الإنسان قد يتكلم في الشخص في غيبته ما لا يستطيع أن يواجهه به تلطفًا أو حياء أو خوفًا أو لأي سبب.
فقد تقول: (إن فلانًا لا يصلح لهذا المنصب) ولكن لا تقول ذلك له مواجهة.
وسيدنا نوح قال: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} أي لا أقول ذلك في غيبتهم مع أنه في مأمن من أن يسمعوا كلامه فيتأثروا إكرامًا لهم. ولا شك أنه لا يقول ذلك في حضرتهم وهم يسمعون كلامه من باب أولى.
فأنت ترى أنه حذف مفعول (تزدري) وهو العائد، وأسند الازدراء إلى الأعين ليدل على أن هذا حكم بالظاهر.
وقال: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ }بضمير الغيبة ليدل على أنه لا يقول فيهم ما يسيء إليهم في غيبتهم فكيف في حضورهم؟
وكل ذلك مما يدل على إكرام هؤلاء الذين تزدريهم الأعين.
ثم إنه جعل باب الاحتمال مفتوحًا في المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، فلربما أتاهم الله خيرًا يجعلكم تندمون على ما قلتم في حقهم.
وهذا من ناحية فيه تخفيف من غلواء القوم فيهم، ومدعاة إلى إكرامهم من ناحية أخرى.
9- قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} توكيدًا لما قاله: {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}
وقال ههنا: {بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} فجاء بالأنفس بجمع القلة.
وقال في سورة الإسراء: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء: 25] فجاء بالنفوس بجمع الكثرة؛ وذلك لأن آية هود في جماعة نوح من المؤمنين وهم قلة كما قال تعالى: {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40].
وأما الخطاب في الإسراء فلعموم الخلق من المكلفين وهم كثير ولا شك. فجاء بالجمع الذي يناسب المقام في كل تعبير.
10- وقال في هود: {اللَّهُ أَعْلَمُ} بذكر لفظ الجلالة.
وقال في الإسراء: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ} بذكر الرب، ذلك لأن الكلام في هود في مقام العبادة، فقد قال لهم نوح: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} فناسب ذكر لفظ الجلالة.
وأما في الإسراء فهو في مقام الإحسان إلى المربي وهما الوالدان، فقد قال تعالى في هذا السياق: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23]
والولدان يربان أبناءهم، أي يربيانهم. والرب هو المربي، فناسب ذكر الرب.
11- ثم ختم بقوله: {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} بتأكيد ذلك بإن واللام.
والطريف أن يتفق ما قاله أول رسول مذكور في القرآن لقومه وهو سيدنا نوح مع ما أمر به يتفق ما قاله خاتم الرسل لقومه، مما يدل على وحدة الرسالة ووحدة موقف المجتمع البشري منها منذ فجر التاريخ إلى حين نزول الرسالة الخاتمة.
فقد قال سيدنا نوح: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}
وأمر سيدنا محمد أن يقول نحو هذا القول، قال تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [الأنعام: 50].
وقال نوح: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [هود: 29].
وقال ربنا لسيدنا محمد: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52].
مما يدل على وحدة الطلب من هذين المجتمعين المتباعدين مع ما بينهما من تطاول القرون.
ووُصف من فعل ذلك بالظلم في الحالين فقال نوح: {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
وقال ربنا لسيدنا محمد: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
مما يدل على أن من فعل ذلك بمؤمن إرضاء لكافر كان من الظالمين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 127 إلى ص 134.
(1) الكشاف 2/96.
(2) ملاك التأويل 1/328.
(3) ملاك التأويل 1/329.
(4) انظر روح المعاني 12/43.
(5) روح المعاني 12/43.