عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴿٢٩﴾    [هود   آية:٢٩]
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 29 - 30] قال نوح إنه ليس طالب مال ولا جاه فهو لا يسألهم مالًا ولا يبغي جاهًا، وإنما هو حامل دعوه فهو لا يطرد ما يسمونهم الأراذل فإنهم ملاقو ربهم. وفي قوله هذا رد على ما قاله الملأ إنهم اتبعوه بادي الرأي من غير تفكير ولا روية. فقال لهم: أنا لا أعلم ذلك وإنما أحكم بظواهر الأمور والله يعلم دخائل النفوس وما في القلوب، وهم ملاقو ربهم، وهو أعلم بهم. ثم لماذا يتبعني هؤلاء وليس عندي مال ولا جاه ولا سلطان؟ جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} "فإن قلت: ما معنى {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}؟ قلت: معناه إنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم، أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم، أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادي الرأي من غير نظر وتفكر. وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون. ونحوه {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية. أوهم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة. (تجهلون) تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل، من قوله: (ألا لا يجهلن أحد علينا) أو تجهلون لقاء ربكم، أو تجهلون أنهم خير منكم" (1). وجاء في (تفسير الرازي) في قوله: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا .... } "اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية وهي قولهم: لا يتبعك إلا يتبعك إلا الأراذل من الناس؟ وتقرير هذا الجواب من وجوه: الوجه الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنا لا أطلب على تبليغ دعوة الرسالة مالًا حتى يتفاوت الحال بسب كون المستجيب فقيرًا أو غنيًا، وإنما أجري على هذه الطاعة الشاقة على رب العالمين. وإذا كان الأمر كذلك فسواء كانوا فقراء أو أغنياء لم يتفاوت الحال في ذلك. الوجه الثاني: كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيرًا وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم، وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا إن أجري إلا على رب العالمين فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد" (2). والأن ننظر في هذا التعبير من الناحية البيانية: 1- فقد قال ههنا: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ...} وفي جميع المواطن الأخرى وردت كلمة (أجر) بدل المال، وذلك كما في قوله: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [هود: 51]، وقوله: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109]، وكما في آيات أخرى نحو ما جاء في الشعراء 127، 145، 164، 180 وغيرها. قيل: وذلك أنها وقعت بعدها كلمة (خزائن) "ولفظ المال بالخزائن أليق" (3) فقد جاء بعدها على لسان نوح: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [هود: 31] فناسب ذكر المال. 2- نفي السؤال بـ (لا) فقال: {لَا أَسْأَلُكُمْ}، وحيث نفى هذا الفعل بـ (لا) جرد مفعوله من (من) الاستغراقية، وذلك نحو قوله: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] وكما في آيات عدة، منها في هود 51، يس 21، الشورى 32. وحيث نفاه بـ (ما) أدخل (من) الاستغراقية على المفعول فيقول مثلًا: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} وذلك في آيات عدة، منها في الفرقان 57، الشعراء 109 و127 و145، ص 86 وغيرها، وذلك في جميع القرآن بلا استثناء. ولعل من أسباب ذلك أن (لا) أكثر إطلاقًا من (ما) وأوسع استعمالًا، بل هي أوسع حرف نفي (4). وهي إذا دخلت على الفعل المضارع فقد تنفي جميع الأزمنة. فهي قد تنفي الحال أو الاستقبال أو الاستمرار وذلك نحو قوله تعالى: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]، وقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} [الصافات: 92] وهي فيهما لنفي الحال. وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] وهي هنا لنفي الاستقبال. وقوله: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وقولك: (الأعمى لا يبصر) وهذا الاستمرار. وأما (ما) إذا دخلت على الفعل المضارع فإنها لنفي الحال. وإن النكرة المنفية قد تكون عامة وقد تكون للواحد. فقولك: (ما جاءني رجل) يحتمل أنه لم يأتك أحد من جنس الرجال، كما يحتمل أنه لم يأتك رجل واحد بل أكثر. فإن دخلت عليها (من) كانت لاستغراق الجنس نصًا. فمع (لا) جاء بما يحتمل الجنس والمفرد مناسبة لإطلاق (لا). ومع (ما) جاء بما هو للجنس نصًا فناسب التنصيص على الحال التنصيص عل الجنس. 3- قال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا} فأكد النفي بالباء الزائدة. وجاء بـ (طارد) اسم الفاعل للدلالة على الدوام، أي إن هذه هي حاله الدائمة. ولم يقل: (ولا أطرد) أو (ولن أطرد) بالفعل فيدل على الحدوث وعلى زمن معين، وإنما هو لا يطردهم على سبيل الدوام والثبات. 4- وأضاف اسم الفاعل (طارد) إلى ما بعده وهو الاسم الموصول ولم ينون اسم الفاعل، فلم يقل: (وما أنا بطارد)، وذلك للدلالة على إطلاق الزمن، أي لم أفعله في الماضي ولا أفعله في الحال ولا في الاستقبال. ولو نون لكان عدم الطرد في الحال أو في الاستقبال؛ لأن اسم الفاعل إذا عمل في المفعول كان للحال أو الاستقبال. 5- قال هنا: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا}. وقال في الشعراء في القصة نفسها: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 114]. فجعل صلة الموصول في آية هود فعلًا (الذين أمنوا). ووصفهم بالإيمان على جهة الثبوت في الشعراء (المؤمنين) وذلك لأن الكلام في هود كان في زمن أسبق مما هو في الشعراء، فقد قال الملأ في هؤلاء: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]. في حين كان الكلام في الشعراء على ما بعد ذلك، فقد لبث فيهم نوح وزمنًا يدعوهم بعد ذلك حتى هددوه بالرجم إن لم يكف، ولم يفعلوا مثل ذلك في سياق آيات هود، وإنما قالوا له: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32] فدل ذلك على أن المشهد في الشعراء إنما كان بعد ما قضى مرحلة طويلة وبرموا به فهددوه بالرجم وإن نوحًا برم بهم فدعا ربه قائلًا: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 117-118]، فوصف جماعته ههنا بالإيمان الثابت لصبرهم وثباتهم والدلالة على أن إيمانهم عن يقين وليس إيمانًا بلا ترو ولا تمحيص، فكان كل وصف في مكانه أنسب. 6- قال: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} فقال: (أراكم) كما قالوا له: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} فكأنه رد على ما قالوه فيه وما كانوا يرونه. فقد قالوا له: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} فقال لهم: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} 7- قال ههنا: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} وكذلك قال في الأحقاف (23) فقال في الموطنين: (أراكم). وقال في الأعراف: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، وقال في النمل: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] ولم يقل فيهما: أراكم. ذلك أن الكلام في هود والأحقاف فيما يراه كلا الفريقين من الدعوة إلى التوحيد، فقد قال ذلك في قصة نوح بعدما دعاهم إلى عبادة الله قائلًا: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] وما واجهه قومه به. وقال ذلك في قوم عاد بعد أن قال لهم نبيهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21] وما واجهه قومه به. فكان الكلام فيما يراه كل فريق في الأخر. وأما في سياق آية الأعراف فليس الأمر كذلك، وإنما قال ذلك موسى لقومه بني إسرائيل بعدما أغرق آل فرعون أمام أعينهم وجاوز بهم البحر، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 138-139] فقد قال لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} مؤكدًا ذلك بـ (إن) ولم يقل: (أراكم) ذلك أن هؤلاء مؤمنين بما جاء به موسى، وقد أنجاهم الله وأغرق آل فرعون بمعجزة شاهدوها وعاشوها ومع ذلك طلبوا أن يجعل لهم نبيهم صنمًا يعبدونه كما يفعل عبدة الأصنام، أليس هذا من أعجب العجب ؟! لماذا إذن أنجاهم الله وأغرق آل فرعون إذا كان منهم يعبد غير الله؟ فقال لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ولم يقل: (أراكم)، فهذا ليس ما يراه إنما هو أمر محقق مؤكد. وأما ما ورد في سياق آية النمل فهو في قوم لوط وما يأتونه من الفاحشة. قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 54 - 55]. وهذه فاحشة معلنة، ومن يأتيها واقع في المنكر لا محالة، فليست هي في سياق مناقشة أفكار، وإنما هو تقرير أمر واقع وليس رأيًا يراه نبيهم فيهم، فقال لهم مقررًا: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فمن يفعل ذلك كان كذلك، وليس على رأي دون أخر. وقال في قوم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} بالتأكيد بإن، وقال في قوم لوط: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ولم يؤكده بإن فعل موسى مع قومه؛ وذلك لأن جهل بني إسرائيل أكبر، فهم مع إيمانهم لموسى وبدعوته طلبوا صنمًا ليعبدوه، فهذا من أكبر الجهل، وهو أكبر من فعل الفاحشة. فالمؤمن بالله الموحد إذا عبد صنمًا كان فعله أكبر وأعظم ممن فعل الفاحشة، فهذه ردة بعد الإيمان وشرك بعد التوحيد. والشرك أكبر الكبائر، وقد ذكر ربنا أن الله لا يغفر للمشرك ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }[النساء: 48] فناسب تأكيد جهل قوم موسى بإن دون قوم لوط مع نسبتهما كليهما إلى الجهل والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 120 إلى ص 126. (1) الكشاف 2/96. (2) تفسير الرازي 6/336. (3) البرهان للكرماني 234 – 235، وأنظر التعبير القرآني 210. (4) انظر معاني النحو 4/240 وما بعدها.