عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴿٢٨﴾    [هود   آية:٢٨]
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28] بدأ بالرد العام عليهم قائلًا لهم: يا قوم اخبروني إن كنت على بينة من ربي وهو البرهان والحجة التي تثبت صدقي وصحة ما أقول فإنه أيدني بمعجزات تدل على ذلك. وأتاني رحمة من عنده وهي النبوة خصني بها. ثم إن هذه البينة أبهمت عليكم ولبست أنلزمكم الحجة مع إبهامها وأنتم كارهون لها لا تحبونها ولا تحبون أن تظهر؟ كيف نلزمكم الحجة وهناك مانعان من ذلك: 1- الإبهام والالتباس. 2- الكراهة لها، إذ لو كنتم تحبونها وتودون معرفتها لتوصلتم إلى ذلك بكل سبيل، ولكنكم تكرهونها فكيف نلزمكم إياها؟ جاء في ( الكشاف):" أرأيتم: أخبروني، {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} على برهان {مِنْ رَبِّي} وشاهد يشهد بصحة دعواي، {وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} بإيتاء البينة على أن البيئة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة" (1). {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} : أبهمت وأخفيت (2). والأن لننظر في تأليف هذه الآية: 1- قال (يا قوم) بنداء قومة وأضافهم إلى نفسه تألفًا لهم ومدعاة إلى أن يستمعوا له. 2- قال: (أرأيتم)، ومعنى (أرأيتم) أخبروني، "ومعنى هذا الفعل منقول من الرؤية إلى معنى الإخبار، فقولك مثلًا: (أرأيت إن أصبحت أميرًا ماذا أنت فاعل؟) معناه: أنظرت في هذا الأمر؟ فأنت تستخبره عما سألته عنه" (3). فهو لا يطابق (أخبروني)، فلا تقول في: (أخبرني حين يسافر محمود ) مثلًا: (أرأيت حين يسافر محمود) ولكن هذا الفعل فيه معنى التعجيب. جاء في (شرح الرضي على الكافية): "ومعنى (أرأيت) أخبر، وهو منقول من (رأيت) بمعنى (أبصرت) أو (عرفت) كأنه قيل: أأبصرته وشاهدت حاله العجيبة، أو أعرفتها، وأخبرني عنها. فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حاله عجيبة"(4). وفي الآية معنى التعجب ظاهر، إذا المعنى: أفكرتم ونظرتم إذا كانت البينة مبهمة عليكم وأنتم لها كارهون فكيف نلزمكموها؟ أيصح ذلك؟ أيكون مقبولًا عقلًا؟! فاستعماله هنا أنسب من (أخبروني) الذي قد لا يكون فيه معنى التعجب. 3- قال: {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} فذكر أن البينة من ربه، ولم يقل: (من ربكم) لأن البينة جاءته هو، ولو كانت البينة جاءتهم هم لقال: (من ربكم) ذلك أنه حيث كان الكلام على المتكلم نفسه يقول إن البينة من ربي فيضيف الرب إلى ياء المتكلم، وحيث قال: إن البينة جاءتكم يقول: إن البينة من ربكم، بإضافة الرب إلى ضمير المخاطبين. قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57]. وقال: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود: 28]. ونحو ذلك جاء في [هود: 63]، و[هود: 88]. بإضافة الرب إلى ضمير المتكلم. في حين قال: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 157]. قال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 73]. ونحو ذلك قال في [الأعراف 85 و105]. بإضافة الرب إلى ضمير المخاطبين. وكل تعبير مناسب في مكانه، فكل تأتيه البينة من ربه؛ لأن الرب هو المربي والمعلم والمرشد والموجه فناسب أن تكون البينة من رب تأتيه. ومن الطريف أن نذكر أن جميع الأمم السالفة التي خوطبت بنحو هذا الخطاب قيل لها: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} وذلك في قوم صالح [الأعراف: 73] ومدين [الأعراف: 85]. وقال موسى لفرعون: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 105] إلا الذين أرسل إليهم سيدنا محمد فإنه قال فيهم: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157]، بزيادة الهدى والرحمة على البينة. أما الأقوام البائدة فلم يزد فيها على البينة ولم يذكر هدى ولا رحمة، ذلك أنهم عذبوا وهلكوا. أما قوم سيدنا محمد فقد هدوا ورحموا. وقال في الأقوام البائدة: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} بتأنيث الفعل لأنها يراد بها المعجزات الدالة على صدق الرسول. وأما في سيدنا محمد فقد قال: {جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} بتذكير الفعل لأن المراد بها القرآن، فقد قال تعالى في سياق هذه الآيات: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 155]. فذكر الفعل لأن المراد به مذكر وهو الكتاب. 4- قال: {وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} فقدم الرحمة على الجار والمجرور {مِنْ عِنْدِهِ} وذلك لأن الكلام على الرحمة، فقد قال في تمام الآية: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} فالكلام على الرحمة. في حين قال في السورة نفسها في موطن أخر: {وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63] فقدم الجار والمجرور المتصل بضمير الرب أي (منه) لأن الكلام على الله لا على الرحمة، ألا ترى إلى قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} فلما كان الكلام على الرحمة قدمها. ولما كان الكلام على الله قدم ضميره عليها. 5- قال: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}، وهو يقول في مواطن أخرى: {رَحْمَةٍ مِنْهُ} ذلك أنه يستعمل {} بذكر كلمة (عند) لما هو أخص فلا يستعمل ذلك إلا من المؤمنين. وأما مع (من) فيستعملها عامة للمؤمن والكافر (5). قال تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 43 - 44]. وقال {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9]. وقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43]. أما مع (عند) فلم يستعملها إلا مع المؤمنين. 6- قال: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي أبهمت وأخفيت، واستعمل (عميت) دون (أبهمت) أو (لبست) أو نحو ذلك، ذلك أنهم قالوا في الآية السابقة: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] بذكر فعل الرؤية، ونقيض الرؤية العمى، فلما كانت رؤيتهم لم تهدهم إلى الحق وإلى رؤية البينة ناسب أن يذكر أنها عميت عليهم، فاستعمل (عميت) أنسب بالمقام. ولما ذكر الرؤية ثلاث مرات ناسب تضعيف التعمية. وقرى أيضًا (فعميت) بالتخفيف والبناء للفاعل، أي التبست عليهم البينة. والقراءتان معًا تفيدان أن البينة التبست عليهم وأبهمت فهي ملتبسة ومبهمة، فكان الالتباس مضاعفًا عليهم من كل وجه: من الشيء نفسه ومعمى من غيره فزاد ذلك التباسًا وتعمية. وإيضاح ذلك أنك: (التبس عليه الأمر ولبسته عليه) فالأمر في نفسه ملتبس لا يهتدي إليه صاحبه، فإن زدت على ذلك أنك لبسته أيضًا فإنه يزيد التباسًا. وكما تقول: (عسر عليه فهم المسألة وعُسّر عليه فهمها أيضًا) فجمع ذلك عسرين: عسرها هي وتعسيرها عليه، وكذلك ههنا (عميت عليهم) و(عميت عليهم) فجمعت القراءتان هذين المعنيين. وقال: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} ولم يقل: (فعميتم عنها) تلطفًا في الكلام. فنسب ذلك إلى البيتة لا إليهم. 7- قال: {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} فقدم الجار والمجرور (لها) على اسم الفاعل ولم يقل (وأنتم كارهون لها) وذلك لإفادة القصر والاختصاص، أي تخصون هذا الأمر بالكراهة. أي أنلزمكم البينة وأنتم تخصونها بالكراهة فلا تكرهون شيئًا ككراهتكم لها. ولو قال: (وأنتم كارهون لها) لأفاد ذلك انهم يكرهونها ولكن لا يخصونها بالكراهة. فلما قدم الجار والمجرور دل على قصر الكراهة عليها، وبين ذلك شدة كراهتهم لها كيف يلزمهم إياها؟ 8- قال: {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} بالاسم، ولم يقل: (وأنتم لها تكرهون) بالاسم، ولم يقل: (وأنتم لها تكرهون) للدلالة على ثبات هذه الكراهة ودوامها. ولو قال: (تكرهون) لكان ذلك دالًا على الحدوث. فذكر كل شيء يحول بينهم وبين البينة. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 114 إلى ص 120. (1) الكشاف 3/95. (2) البحر المحيط 5/216. (3) معاني النحو 2/18. (4) شرح الرضي على الكافية 2/212. (5) انظر كتابنا (على طريق التفسير البياني) 2/204 وما بعدها.