عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴿٢٧﴾ ﴾ [هود آية:٢٧]
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]
ذكر الملأ الذين كفروا أمورًا تدعوهم إلى الشك في دعواه وهي:
1- أنه بشر مثلهم فلماذا يؤثره الله بهذا الفضل دونهم؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنهم يرون أن الله لو أراد أن يرسل رسولًا لأرسل ملكًا من الملائكة، كما قالوا في موطن أخر: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24].
2- أن الذين اتبعوه هم أراذل المجتمع في نظرهم، وأما هم فملأ القوم أي أشرافهم، فكيف يرى هؤلاء الأراذل ما لا يراه أشرف القوم من الحق؟
وحتى لو كان نوح على حق فإن هؤلاء لا ينبغي أن يكونوا معهم فيجالسوهم ويخالطوهم.
3- وعلاوة على ذلك فإن هؤلاء الذين اتبعوه وهم أراذل القوم اتبعوه بادي الرأي، أي أول الأمر من دون تفكير ولا روية، ولو فكروا وترووا لم يفعلوا.
4- أنا لا نرى لكم علينا من فضل لا في حصافة عقل ولا في مكانة اجتماعية فلماذا اختاركم الله دوننا في الرسالة أو التصديق؟
جاء في (تفسير الرازي): "والمعنى لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل. فإذا لم نشاهد فضلك علينا في شيء من هذه الأحوال الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات" (1).
5- وذكروا أنهم يظنونهم كاذبين. والخطاب للجميع لنوح وأتباعه، فنوح في ظنهم كاذب، وأتباعه في ظنهم كاذبون، فهم لم يؤمنوا به حقًا وإنما قد يكون إيمانهم لغرض من الأغراض أو أنهم أمنو به أول الأمر ولم يرجعوا عن ذلك.
لقد قال ههنا: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} من غير توكيد للظن.
وقال في الأعراف: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66] فأكده بإن واللام.
وقال في الشعراء: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 186] فأكده بـ (إن) المخففة وذلك بحسب المقام الذي يقتضي كل تعبير.
وإيضاح ذلك أن مقام التكذيب في الأعراف أشد من الموطنين الأخرين، فقد قالوا لنبيهم: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66] ولم يرد نحو هذا في الموطنين الأخرين.
ثم إنه كان بينه وبين قومه مشادة عنيفة، فقد قالوا له: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]
فرد عليهم قائلًا: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 71] فناسب ذلك قوة المواجهة في التكذيب.
وأما في الشعراء فالمواجهة أخف مما هي في الأعراف، فقد قالوا لشعيب في الشعراء: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 185 - 186].
ثم تحدوه قائلين: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187].
وهو لم يواجههم بتلك الشدة التي واجههم بها في الأعراف، فإنه لم يزد على قوله:{قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 188].
فوازن بين قول هود في الأعراف:{قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}وقول شعيب في الشعراء: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 188]
ووازن بين قولهم في الأعراف: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} وقولهم في الشعراء: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}
يتضح لك الفرق بين المقامين، ويتضح لك الفرق بين التكذيبين. فجاء التكذيب في الشعراء بـ (إن) المخففة.
وأما في هود فالسياق و المقام مختلفان، فهما لم يكونا بذلك العنف والقوة.
فهم يزيدوا على ما ذكروا من دون مواجهة عنيفة.
حتى إن نوحًا في رده عليهم لم يكن عنيفًا وإنما قال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28].
أي لبست عليكم البينة.
فكانت المواجهة أخف و كان التكذيب أخف.
فناسب كل تعبير مكانه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 111 إلى ص 114.
(1) تفسير الرازي 6/336 – 337.