عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴿٢٢﴾    [هود   آية:٢٢]
{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [ هود: 22]. فلا أخسر منهم . وقال : ( الأخسرون ) ولم يقل : ( هم الخاسرون ) أو ( من الخاسرين ) ليبين أنه لا أخسر منهم. وقال ههنا: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}. وقال في سورة النمل: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [النمل: 4 - 5]. فقال في آية هود: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}. وقال في آية النمل: {وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}. فأكد الخسران في آية هود ما لم يؤكده في آية النمل. فقد قال: (لا جرم) ومعنى (لا جرم) لا بد ولا محالة، وقيل: معناه حقًا (1). وهي عند العرب تنزل منزلة القسم للتأكيد، وقد تجاب بما يجاب به القسم فيقال: لا جرم لآتينك (2). وقال: (أنهم) فأكد بـ (أن) وذلك أنه في سياق آية هود زاد على ما ذكره في سياق آية النمل من الآثام. فقد قال في آية النمل إنهم لا يؤمنون بالآخرة. وقال في سياق آية هود: 1- إنهم كذبوا على ربهم. ٢- يصدون عن سبيل الله. ٣- يبغونها عوجًا. ٤- هم بالآخرة هم كافرون. ثم ذكر أنه يضاعف لهم العذاب فأكد خسرانهم. فكان كل تعبير مناسبا للمكان الذي ورد فيه. جاء في (تفسير الرازي): "اعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم: الصفة الأولى: كونهم مفترين على الله، وهي قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. والصفة الثانية: أنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال، وهي قوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ}. والصفة الثالثة: حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة، وهي قوله: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ } والصفة الرابعة: كونهم ملعونين من الله، وهي قوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} والصفة الخامسة: كونهم صادين عن سبيل الله مانعين من متابعة الحق، وهي قوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. والصفة السادسة: سعيهم في إلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة، وهي قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}. والصفة السابعة: كونهم كافرين، وهي قوله: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}. والصفة الثامنة: كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله، وهي قوله: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} قال الواحدي: معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد. يقال: أعجزني فلان، أي منعني من مرادي. ومعنى (معجزين في الأرض) أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابنا ... والصفة التاسعة: إنهم ليس لهم أولياء يدفعون عذاب الله عنهم. والمراد منه الرد عليهم في وصفهم الأصنام بأنهم شفعاؤهم عند الله. والمقصود أن قوله: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} دل على أنهم لا قدرة لهم على الفرار. وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} هو أن أحدًا لا يقدر على تخليصهم من ذلك العذاب. فجمع تعالى بين يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم. وبين ذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة ... والصفة العاشرة: قوله تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}، قيل: سبب تضعيف العذاب في حقهم ... أنهم مع ضلالهم الشديد سعوا في الإضلال ومنع الناس عن الدين الحق ... والصفة الحادية عشرة: قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}. الصفة الثانية عشرة: قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}، ومعناه: أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران. الصفة الثالثة عشرة: قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. الصـفـة الـرابـعـة عشرة: قوله: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 78 إلى ص 82. (1) انظر لسان العرب (جرم). (2) انظر شرح الرضى على الكافية 2/389، شرح الأشموني 1/279، لسان العرب (جرم)، معاني القرآن للفراء 2/8. (3) التفسير الكبير 6/332 – 334.