عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ﴿٢٠﴾ ﴾ [هود آية:٢٠]
- ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿٢١﴾ ﴾ [هود آية:٢١]
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [هود ۲۰ - ۲۱]
أولئك لم يكونوا يعجزون الله لو أراد أن يعاقبهم في الدنيا. وقال: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} ولم يذكر مفعولاً لـ (معجزين) وإنما أطلق ذلك فنفى عنهم صفة الإعجاز أصلاً، فهم أذل وأضعف من يعجزوا أحدًا.
وقال: {فِي الْأَرْضِ} أي في مكانهم وموضع استقرارهم. والإنسان أعز ما يكون إذا كان في داره، فإذا انتفى إعجازهم في مكانهم فانتفاؤه في غير الأرض أظهر.
وقد بين ذلتهم وصغارهم من أكثر من ناحية:
1- فقد نفى أن يعجزون أحدًا فأطلق النفي ولم يذكر مفعولاً فدل ذلك على أنهم لا يعجزون أحدًا.
٢- وقد بين نفي قدرتهم واستطاعتهم في مكانهم ومستقرهم. وهذا أذل ما يكون وأهون ما يكون.
٣- وجـعـل عـدم الإعجـاز وصفهـم الثـابـت فـقـال: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} فجاء بالاسم الدال على الثبات، ولم يقل: (لم يكونوا يعجزون) بل دل على ضعفهم وعدم قدرتهم على جهة الثبوت والدوام.
4- ثم ذكر أنه ما كان لهم من أولياء من دون الله.
فنفى عنهم القدرة في ذواتهم وأنفسهم، ونفى عنهم الولي فلا ولي لهم يتولى أمرهم.
وهذا أدل على ضعفهم وصغارهم.
فهؤلاء الذين كانوا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ولا يؤمنون بالآخرة هم أذل ما يكون على الحقيقة.
جاء في (الكشاف): {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} أي ما كانوا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، وما كان لهم من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم" (1).
وقد تقول: لقد قال ههنا: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} فجاء بالأولياء مجموعة، وفي مواضع أخرى يفرد الولي فيقول مثلاً: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 107].
أو يقول: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 8].
فما السبب مع أن الإفراد في نحو هذا أدل على الشمول، فقولك: (ما في الدار من رجال) نفيت فيه جنس الرجال في حال الجمع ولم تنف وجود رجلين أو رجل واحد. أما قولك: (ما في الدار من رجل) فقد نفيت فيه وجود الجنس على سبيل الاستغراق واحدًا أو أكثر.
وقولك: (ما لهم من ولي) نفيت فيه أن يكون لهم ولي على سبيل الاستغراق واحدًا أو أكثر. أما إذا قلت: (ما لهم من أولياء) فإنه ينفي الجنس في حالة الجمع، ولا ينفي أن يكون لهم ولي واحد أو اثنان؟
والجواب: أن الجمع في هذا الموضع هو الأصوب ولا مندوحة عنه، ذلك أن هذا الكلام في الآخرة، والمذكورون هم جماعات مختلفة ومن أمم متعددة وأزمان مختلفة متباعدة، وقد يكون بين جماعة وأخرى قرون كثيرة فلا يمكن أن يكون لهؤلاء الجماعات ولي واحد، وإنما يكون لكل جماعة أو أمة ولي أو أولياء يتولونهم، فلا يصح أ أن يقال: (ما كان لهم من دون الله من ولي).
هذا علاوة على أنه قد يتخذ أهل البلد الواحد أو المجتمع الواحد أولياء متعددين، فنفي الأولياء هو الأصوب بل هو المتعين وليس نفي الولي؛ وخاصة أن هؤلاء الأولياء إنما هم غير الله فلا بد أن يتعددوا.
هذا علاوة على أنه حيث نفى الأولياء في نحو ذلك، أي في نحو قوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ}، وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الشورى: ٤٦] فإنما ذلك في الآخرة.
وحيث أفرد الولي في نحو ذلك إنما هو الكلام في الدنيا، ويكون الكلام إما عن فرد واحد أو مجموعة معينة فينفي الولي له أو لها.
جاء في (روح المعاني): {مِنْ أَوْلِيَاءَ}: (من) زائدة لاستغراق النفي، وجمع (أولياء) إما باعتبار أفراد الكفرة، كأنه قيل: وما كان لأحد منهم من ولي، أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانًا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 73 إلى ص 75.
(1) الكشاف 2/94.
(2) روح المعاني 12/32.
{يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}
"يشدد ويكثر، وهذا استئناف إخبار عن حالهم في الآخرة؛ لأنهم جمعوا إلى الكفر بالبعث الكذب على الله وصد عباده عن سبيل الله وبغي
العوج لها وهي الطريقة المستقيمة" (1).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 75 إلى ص 76.
(1) البحر المحيط 5/212.
{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}
أي يكرهون سماعه فلا يطيقون أن يسمعوه لشدة بغضهم له. كما يكرهون أن ينظروا إليه فلا يطيقون ذلك لشدة بغضهم لرؤيته.
جاء في (الكشاف): "أراد أنهم لفرط تصماهم عن استماع الحق وكراهتهم له كأنهم لا يستطيعون السمع ... كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان: هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه وهذا مما يمحه سمعي" (1).
وجاء في (البحر المحيط): {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} إخبار عن حالهم في الدنيا على سبيل المبالغة، يعني السمع للقرآن ولما جاء به الرسول .
{وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} أي ينظرون إليه لبغضهم فيه، ألا ترى على حشو الطفيل بن عمرو أذنيه من الكرسف وإباية قريش ما نقل إليهم من كلام الرسول" (2).
وجاء في (روح المعاني): {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} أي إنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول ويستكرهونه إلى أقصى الغايات حتى كأنهم لا يستطيعونه ...
{وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} أي إنهم كانوا يتعامون عن آيات الله تعالى المبسوطة في الأنفس والآفاق" (3).
لقد قدم السمع على الإبصار ههنا فقال: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}.
وقدم آلة الإبصار على السمع في الكهف فقال:{ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } [الكهف: 101]: وذلك أنه ذكر في سياق آية هود ما يسمع وهو الكذب فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، وقال:{ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}، وقال: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 24].
في حين ذكر في الكهف ما يرى وهو عرض جهنم فقال: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي}، فقدم في كل موضع ما يناسبه.
وهناك أمر آخر في هاتين الآيتين، فقد عرّف السمع في آية هود فقال: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}، ونكره في آية الكهف فقال: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} ذلك أن آلة السمع في آية هود غير معطلة وإنما كانوا يستثقلون سماع نوع معين من الكلام وهو الكلام في دين الله. أما غيره من الكلام فإنهم يسمعونه ويستحبونه. فعرّف السمع الذي يستثقلونه ويكرهونه.
وأما في الكهف فإن آلة الإبصار معطلة وآلة السمع معطلة، فقد قال في آلة الإبصار: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} فهي لا تبصر لأنها مغطاة.
وقال في السمع: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} وهذا إثبات لعدم استطاعة السمع، أي إنهم لا يسمعون لأن آلة السمع معطلة فلا يسمعون أي نوع من الكلام (4).
ومن كانت آلة السمع معطلة عنده لا يسمع شيئا فنكره لذلك.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 76 إلى ص 78.
(1) الكشاف 2/94.
(2) البحر المحيط 5/212.
(3) روح المعاني 12/32.
(4) انظر كتابنا (معاني النحو) 1/277، روح المعاني 16/45، 12/22، الكشاف 2/94.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }
لقد ذكر أن هؤلاء خسروا أنفسهم وهذا أكبر الخسران، فإن أكبر الخسران أن يخسر الإنسان نفسه.
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }
أي زال عنهم افتراؤهم ولم ينفعهم شيئًا. وزالت عنهم أصنامهم وآلهتهم التي كانوا يفترون فيها ويقولون فيها ما يقولون وضلت عنهم. فلا تهتدي إليهم ولا يهتدون إليها.
جاء في (روح المعاني): "والمراد بها الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقولون فيها: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} أو نحو ذلك ... أي زالت وذهبت عنهم أوثانهم التي كانوا يفترون فيها ما يفترون فلم تغن عنهم من الله شيئًا.
وقيل: إن (ما) مصدرية، أي ضل افتراؤهم، كقوله سبحانه: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} أي لم ينفعهم ذلك" (1).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 78 إلى ص 78.
(1) روح المعاني 7/124، وانظر تفسير الرازي 4/504.