عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿١٨﴾    [هود   آية:١٨]
  • ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿١٩﴾    [هود   آية:١٩]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: ۱۸ - ۱۹]. هذه الآية مناسبة لما تقدم من قوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} فقد ذكر فيها شأن المفترين على الله وحالهم ومآلهم. 1- فقد قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ} على سبيل الاستفهام، والمعنى: ولا أحد أظلم ممن يفتري على الله. وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ} ولم يقل: (ولا أظلم) ليشارك المخاطب في الجواب، فيقول: (لا أحد أظلم منه). وهو أبلغ من (لا أظلم) لأن كل مخاطب أو سامع إذا سئل عن ذلك فقيل له: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فسيقول: لا أحد أظلم منه، ويقرر ذلك بنفسه. ٢- وقال: {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فنكر الكذب ليشمل كل كذب، ولا يختص بأمر معين. فدخل في ذلك كل افتراء وكل مفتر. فيشمل ذلك من قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن زعم أن ما جاء به هو كلام الله أو من شرع الله وحلل وحرم ما لم يأذن به الله ونسب ذلك إلى الله، وغير ذلك وغيره من الافتراءات. 3- وقال: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} لتقريرهم بفعلتهم والإشهاد عليهم لفضيحتهم وإلحاق الخزي بهم. وعرضهم على ربهم إذلال لهم لأنهم عرضوا على من كذبوا عليه، فيكونون بمواجهته، ولئلا ينكروا ذلك جاء بالأشهاد فيشهدون عليهم ويقولون: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} 4- قال أولاً: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ} فذكر اسمه العلم (الله). ثم قال: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} فذكر اسم الرب مضافًا إليهم. فهؤلاء افتروا على الله خالق السماوات والأرض. وافتروا على (ربهم) هم، ربهم الذي أحسن إليهم ورباهم وقام على أمرهم. فالافتراء على الرب من أسوأ الأفعال وأقبحها، فمن افترى على ربه وسيده ومتولي أمره ومن أحسن إليه كان مسيئًا بالغ الإساءة. فإن كان الرب هو (الله) ازدادت الفعلة سوءًا، فقد جمعت الإساءة الكذب على الله وعلى ربه فكانت أسوأ فعلة وأخزى فضيحة. ولو جاء باسم واحد فقال في التعبيرين: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ثم قال: (هؤلاء الذين كذبوا على الله) لم تكن بتلك الإساءة، فإن لكل اسم من أسماء الله الحسنى دلالته فافتروا عليه بذاته وافتروا عليه مع أنه ربهم. فازدادوا ظلمًا على ظلم وقبحًا على قبح. 5- قال تعالى: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} والأشهاد جمع: شاهد كأصحاب جمع صاحب، أو جمع شهيد كأشراف جمع شريف(1). وجاء بالأشهاد ليشهدوا شهادة علنية أمام الثقلين على أن هؤلاء كذبوا على ربهم ليفضحوهم ويخزوهم. والإشارة إليهم بـ (هؤلاء) زيادة في إذلالهم وفضحهم. جاء في (البحر المحيط): "لما سبق قولهم: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ذكر أنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبًا، وهم المفترون الذين نسبوا على الله الولد واتخذوا معه آلهة وحرموا وحللوا من غير شرع الله. وعرضهم على الله بمعنى التشهير لخزيهم والإشارة بكذبهم وإلا فالطائع والعاصي يعرضون على الله {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا}. وفي قوله: (هؤلاء) إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء مرتكبهم. وفي قوله: (على ربهم) أي على من يحسن إليهم ويملك نواصيهم وكانوا جديرين ألا يكذبوا عليه. وهذا كما تقول إذا رأيت مجرمًا: (هذا الذي فعل كذا وكذا)" (2). فاستحق هؤلاء اللعنة والطرد من رحمة الله. إنه لم يقل: (ألا لعنة الله عليهم) وإنما قال: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} فشملت اللعنة كل ظالم ودخل فيها هؤلاء لأنه لا أحد أظلم منهم فهم أولى باللعنة. وختم الآية بقوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} فذكر الظالمين مناسبة لقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ}. وقوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} يحتمل أن يكون من قول الأشهاد كما في قوله تعالى في سورة الأعراف: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: ٤٤]. ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله سبحانه (3). فتكون إحدى اللعنتين من الأشهاد والأخرى من الله فيتحقق منهما معًا قوله تعالى: {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} 6- وصف الظالمين بقوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} فقال: (يصدون) و(يبغونها) بالمضارع. فإن كان ذلك من قول الأشهاد كان من حكاية الحال الماضية وذلك إحضار لسوء الفعلة ومعاينتها، كما في قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91]، فقتل الأنبياء ماض بدليل قوله: {مِنْ قَبْلُ} وعبر عنه بالمضارع حكاية للحال. وإن كان من قول الله تعالى احتمل أن يكون من حكاية الحال أيضًا. واحتمل أن يكون ذلك للحال والاستقبال حقيقة، فتشمل اللعنة هؤلاء في الدنيا والآخرة. وقوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي يفعلون ذلك على سبيل الدوام. وكذلك قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}. ومعنى {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} "يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد" (4). ۷- قال تعالى: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} فذكر (هم) الثانية توكيدًا. جـاء فـي (الكشـاف): "و(هـم) الثـانيـة لتـأكـيـد كـفـرهـم بـالآخـرة واختصاصهم به" (5). وقـد تقـول: لقـد قـال فـي الأعـراف: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 45] فلم يكرر (هم) مع أن السياقين متشابهان فما السبب؟ فنقول: إن السياقين مختلفان، فقد قال في الأعراف: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: ٤٤ - ٤٥]. وقال في هود: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ..... } فزاد في هود ذنبًا آخر وهو الكذب على الله الذي هو من أكبر الظلم فقال: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}. فلما زاد في ذكر المعصية زاد في وصفهم بالكفر، فناسب كل تعبير موضعه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 68 إلى ص 73. (1) انظر الكشاف 2/94. (2) البحر المحيط 5/212. (3) انظر البحر المحيط 5/212، روح المعاني 12/31. (4) الكشاف 2/94. (5) الكشاف 2/94.