عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿١٢﴾ ﴾ [هود آية:١٢]
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12].
ومناسبة الآية لما قبلها، ذلك أنه لما ذكر الذين صبروا في الآية السابقة أشار إلى ما يقتضي الصبر في هذه الآية، ذلك أنه مثل هذا الضيق ينبغي الصبر، الصبر على ما يجد في نفسه، والصبر على ما يقولون.
قيل: (ولعل) في نحو هذا تفيد الزجر "والعرب تقول للرجل إذا أرادوا إبعاده عن أمر: لعلك تقدر أن تفعل كذا، مع أنه لا شك فيه. ويقول لولده لو أمره: (لعلك تقصر فيما أمرتك به) ويريد توكيد الأمر، فمعناه: لا تترك" (1).
وقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} ولم يقل: (تارك ما يوحى إليك) ليحذره من ترك أي شيء من أمور الدين بسبب أقوال الكافرين واستهزائهم، بل إن عليه أن يبلغه كله أيًا كان موقف الكافرين منه، ومهما سبب ذلك من ضيق في صدره" وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، بكان يضيق صدر رسول الله أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم، (أن يقولوا) مخافة أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه" (2).
وقال: (ضائق) ولم يقل: (ضيق) "ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت؛ لأن رسول الله كان أفسح الناس صدرًا. ومثله قولك: زيد سيد وجواد، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين، فإذا أردت الحدوث قلت: سائد وجائد" (3).
وذلك لأن اسم الفاعل يدل على الحدوث، بخلاف الصفة المشبهة فإنها تدل على الثبوت. فـ (حسن) يدل على الثبوت و(حاسن) يدل على الحدوث، تقول: ( هو حاسن غدًا) أي سيحسن، ونحوه: كريم وكارم.
جاء في (البحر المحيط): "وليس هذا الحكم مختصًا بهذه الألفاظ، بل كل ما بيني من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن (فاعل) رد إليه إذا أريد معنى الحدوث، فنقول: حاسن من حسن، وثاقل من ثقل، وفارح من فرح، وسامن من سمن" (4).
وقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} بتنوين (تارك) ولم يقلها بالإضافة، للدلالة على تحذيره من فعل ذلك في المستقبل، أي لعلك ستترك؛ لأن إعمال اسم الفاعل شرطه أن يدل على الحال أو الاستقبال. ولو قالها بالإضافة لاحتمل المضيّ أيضًا فيكون الزجر عما فعل، أي لعلك تركت بعض ما يوحى إليك، فهو يحذره من أن يكون قد ترك بعض ما يوحي إليه. وهذا لا يصح، إذا هو أحرص الخلق على تبليغ الوحي.
وقدم {تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} على {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} مع أنه قد يكون ضيق الصدر سببًا للترك، ذلك أنه قدم ما هو الأهم وهو ما يوحي إليه، فإن ترك بعض ما يوحي إليه هو أهم وأخطر من ضيق الصدر. وقد يضيق صدر المرء من شيء غير أنه لا يترك الأهم. وقد ذكر ربنا عن رسوله في موطن آخر أنه يضيق صدره بما يقولون فأرشده إلي التسبيح والصلاة فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97 – 98].
وقال: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} فقدم (به) على الصدر، ولم يقل (وضائق صدرك به ) ذلك لأن المجرور وهو الهاء في (به) يعود على بعض ما يوحي إليه وهو أهم من الفاعل ، فقدم ما هو أهم. ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} فقدم (الصدر) على (ما يقولون) لأن صدره أهم مما يقوله المستهزئون؟
وقال: {أَنْ يَقُولُوا} ولم يقل: (أن قالوا) أو (لقولهم) ذلك أن قوله: {أَنْ يَقُولُوا} يفيد الدوام والاستمرار، أي لأنهم يقولون ذلك. أما (أن قالوا) فإنه يفيد أنهم قالوه في الماضي وانتهى الأمر، وقد يكونون قالوه مرة واحدة.
وكذلك لو قال: (لقولهم) فإنهم يحتمل المضي وأنهم قالوه مرة واحدة. في حين أنهم يقولون ذلك باستمرار مما يدعو إلى ضيق صدره بذلك.
{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} "أي مال كثير ، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة ، لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء. ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي" (5).
{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} "أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردوا أو تهاونوا أو اقترحوا.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه وكل أمرك إليه" (6).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 44 إلى ص 47.
(1) تفسير الرازي 18/324.
(2) البحر المحيط 5/206 – 207.
(3) الكشاف 2/92.
(4) البحر المحيط 5/207.
(5) روح المعاني 12/19.
(6) البحر المحيط 5/206.