عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴿١٠﴾    [هود   آية:١٠]
  • ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿١١﴾    [هود   آية:١١]
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 10 – 11]. النعماء: قيل هي "أنعام يظهر أثره على صاحبه. والضراء: مضره يظهر أثرها على صاحبها ... وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء، والمضرة والضراء" (1). وقال: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} بتذكير الفعل (ذهب)، ولم يقل: (ذهب السيئات عني)، وهذا جار في جميع القرآن إذا جعل السيئات فاعلًا فإنه يذكر الفعل. قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48] وقال: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 51]، وقال: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 51]، وقال: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية:33]. وذلك مراعاه للمعنى والله أعلم، إذا المقصود أنه يصيبهم جزاء السيئات وما توجبه السيئات من العذاب ونحو ذلك، فذكر لأنه أراد معنى المذكر، ويوضح ذلك قوله: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}. [الزمر: 50 - 51]. بتذكير الفعلين (أصابهم) و(سيصيبهم) ذلك أنه ليس المقصود أنه أصابتهم سيئات أعمالهم، وإنما المقصود أنه أصابهم عذاب هذه السيئات أو جزاء هذه السيئات، ولذلك قال: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} إشارة إلي العذاب الذي حل بهم. ثم هَدَّد من كان في زمنه من الظالمين قائلًا: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر: 51] أي سيصيبهم جزاء سيئاتهم وما يستحقون من العذاب ولذا قال: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}. فذكر الفعل إشارة إلي المعنى. وأراد هنا بقوله: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} ذهاب البؤس وذهاب سيء العيش وزوال ما ساءه منه فذكر الفعل مراعاة للمعنى ، وليس المقصود ذهاب السيئات من الأعمال التي يعملها الفرد، والله أعلم. والفرح الأشر البطر "وهذا الفرح مطلق فلذلك ذم المتصف به ولم يأت في القرآن للمدح إلا مقيدًا بما فيه خير كقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]" (2). والفخور: هو الذي يفخر على الناس بما عنده، وهنا يفخر على الناس "بما أذاقه الله من نعمائه قد شغله الفرح والفخر عن شكر" (3). ولم تأت كلمة (فخور) في القرآن إلا في ذم من اتصف بها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 32]. {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} على ما أصابهم من الضراء. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في كل أحوالهم سواء في حال الضراء أو النعماء. ومن العمل الصالح شكرهم لربهم على ما أنعم عليهم فأولئك لهم مغفرة؛ لأن المؤمن إذا أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، والمصائب كفارة للذنوب. فذكر المغفرة لأن ما أصابهم من الضراء مدعاة للمغفرة إذا صب صاحبها. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وذلك لأن هذا الأجر أصابهم في حالتي الضراء والنعماء، ففي الضراء نالهم أجر الصابرين المحتسبين، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وفي حال النعماء نالهم أجر الشاكرين إضافة على أجر العمل الصالح الذي ذكره في قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فكان الأجر كبيرًا. جاء في (البحر المحيط): "واستثنى تعالى الصابرين يعني على الضراء وعاملي الصالحات، ومنها الشكر على النعماء، أولئك لهم مغفرة لذنوبهم يقتضي زوال العقاب والخلاص منه، وأجر كبير هو الجنة، فيقتضي الفوز بالثواب" (4). وجاء في (روح المعاني): "وأيًا ما كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقًا أو لا حقًا إيمانًا بالله تعالى واستسلامًا لقضائه ... {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} شكرًا على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة. قال المدقق في الكشف: لما تضمن اليأس عدم الصبر، والكفران عدم الشكر، كان المستثنى من ذلك ضده ممن اتصف بالصبر والشكر. فلما قيل: (إلا الذين)... إلخ كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا" (5). وذكر أحوال الأنسان في حالي إذاقة الرحمة ونزعها، وحالي إذاقة النعماء ومس الضراء، بيانًا لما تقدم من قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، فإن هذا من البلاء في السراء والضراء. جاء في (روح المعاني): "وقال بعض المحققين: إن وجه التعلق من حيث إن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال في قوله سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}" (6). ومن الملاحظ أنه أسند مظاهر الرحمة والخير إلي نفسه سبحانه دون مقابلها فقد قال: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} فأسند تأخير العذاب إلي نفسه، في حين قال: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} فأسند تأخير العذاب إلي نفسه، فلم يقل: (ألا يوم نأتي به)، كما سبق أن ذكرنا. وقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} فأسند إذاقة الرحمة إلي نفسه. وقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ} فأسند إذاقة النعماء إلي نفسه. في حين قال: {بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} فأسند المس إلي الضراء ولم يقل: (بعدما مسسناه بالضر) ونحوه، كل ذلك من باب إسناد الخير إلي نفسه سبحانه دون السوء والشر. وقد تقول: ولكنه قال: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ}. فنقول: إذا هذا ما يقتضيه قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فإن البلاء يكون في السراء والضراء، والخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. ومع ذلك فقد اختار أهون الأمور، فلم يقل: (مسسناه بالشر) أو (مسسناه بالسوء) ونحو ذلك، وإنما قال: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} أي أعاده إلي حالته قبل إذاقته الرحمة. وهو كما يعطي أحد أحدًا شيئًا على سبيل الاختبار ثم يسترجعه منه ليري كيف يفعل. فهو لم يقل إنه أصابه بالضر أو السوء أو بالشر، وإنما قال أذاقه شيئًا ثم أعاده ليختبره. وهو أخف من إصابته بالضراء أو بالشر أو نحوه. جاء في (روح المعاني): "وفي إسناد الإذاقة إليه تعالى دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصودة بالذات دون مس الضر بل هو مقصود بالعرض... وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه، وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة من مراتبها من اللطف ما لا يخفى ولعله يقوي عظم شأن الرحمة"(7). ثم لننظر نسق الآيات وترتيبها: فقد بدأ بعموم المكلفين وطلب منهم أن لا يعبدوا إلا الله. ثم خص الكافرين بالذكر وذلك قوله: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} ثم ذكر ما هو أعم وهو كل دابة في الأرض فقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} ثم عاد إلي ذكر عموم المكلفين فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. ثم خص الكافرين فقال: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. ثم ذكر ما هو أعم وهو الأنسان فقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً}. فكان النسق على النحو الآتي: عموم المكلفين – الكافرين – ما هو أعم وهو كل دابة. عموم المكلفين – الكافرين – ما هو أعم. ثم إنه بدأ وانتهي بالكتاب، فقد بدأ بقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ}. وانتهى بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ….. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [هود: 12 - 13]. فكان النسق في ترتيب الآيات واحدًا. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 39 إلى ص 44. (1) تفسير الرازي 18/322. (2) البحر المحيط 5/206. (3) الكشاف 2/92. (4) البحر المحيط 5/206. (5) روح المعاني 12/16. (6) روح المعاني 12/16. (7) روح المعاني 12/15.